Sadaonline

السيد فضل الله: مرجعية في طول مرجعيات أخرى!

السيد فضل الله: مرجعية في طول مرجعيات أخرى!

طلال طه ـ مونتريال 

لقد عاش سماحة آية الله السيد محمد حسين فضل الله (قدس سره) في النجف حياة ثرة وغنية في ظل وصحبة مرجعيات ثلاث كانت كلا منها تشكل قامة عالية فيما تميزت فيه من اختصاص لا يلغي عمق معرفتها وإحاطتها في الإختصاصات الأخرى من المعارف والعلوم والسلوك الذي تفردت به نخبة من مراجعنا الكبار..

المرجعية الأولى كانت مرجعية السيد محسن الحكيم (قدس سره) التي تمكنت من فك القيود السياسية حول المرجعية التي فرضها الإستعمار الإنكليزي بعد سقوط الخلافة العثمانية وفشل المقاومة العراقية تحت قيادة المرجعية في صد الإحتلال البريطاني.. سماحة السيد الحكيم (رض) تمكن من كسر قيد النظام البعثي الذي بدأ عنيفا في تصديه للمرجعية والحوزة، وذلك ببدء حراك سياسي واجتماعي تجاوبت معه قطاعات واسعة من الشعب العراقي..

السيد فضل الله كان قد بدأ نشاطه بصحبة ولدَي السيد الحكيم (رض) الشهيدين مهدي ومحمد باقر الحكيم اللذين حصلا على موافقة المرجع وتأييده لتحرك المرجع الآخر سماحة السيد محمد باقر الصدر (رض)، الذي كان قد بدأ تحركا جديدا ومتميزا على صعيد الحراك الإسلامي الشيعي في طروحاته المتعددة التي ميزت مرجعيته المجددة في المجال المرجعي والحركي والفكري والفلسفي والإجتماعي وغيره..

المرجعية الثالثة كانت مرجعية السيد الخوئي (قدس سره) التي امتدت سعة وعمقا في الأبحاث الأصولية والفقهية، والتي واكبها السيد فضل الله دراسة وتدريسا ثم تمثيلا مطلقا بعد خروجه من النجف الى لبنان.

مرجعية السيد الحكيم في بعدها السياسي أصيبت بانتكاسة سريعة بعد أن تعرضت لحملة شرسة عبر التشهير بالسيد مهدي الحكيم في لعبة قذرة ميزت تعامل نظام البعث الصدامي مع المرجعية والحوزة لاحقا، انتكاسة عجلت بوفاة السيد محسن الحكيم (رض) وتصدي سماحة السيد الخوئي لمرجعية الفتيا من بعده ولتنتقل المرجعية في بعدها السياسي الى المقلب الآخر من الخليج حيث لاقى السيد الخميني (قدس سره) مرجعية النجف في حراكها السياسي البكر، وانتقل به الى مدى ابعد وأرحب وأفعل، فكانت الثورة الإسلامية المباركة ثم الجمهورية الإسلامية في إيران..

سماحة السيد فضل الله كان في القلب من هذا الحراك السياسي والفكري والفقهي، حيث تمكن بقدرة فائقة ولياقة عالية ومجاهدة حثيثة من ربط هذه المرجعيات الثلاث بعيدا عن النجف و قم بحبله السري.. فكانت بيروت مدينة مفتوحة تسمح للسيد بأن يطلق مشروعه التجديدي متخلصا من أعباء ضغوط المركز التي قيدت حركة الكبار أمثال الشهيد السيد محمد باقر الصدر (رض) الذي رحل شهيدا باكرا جدا، والسيد الخميني (رض) الذي قيض له المنفى أجواء حركة ما كانت لتكون لو أنه نزل عند رغبة "المتألهين" الذين أجلوا معركتهم معه، ثم توجهوا بعد وفاته لإعاقة السيد فضل الله عن متابعة مشروع التجديد والمعاصرة والمقاومة.

وقد نسمح لأنفسنا بالقول إن كلا من المرجعيات الثلاث الكبيرة – أو الأربع، على غنى وموسوعية في علمها وفكرها وفقهها، قد تميزت كل واحدة منها باختصاص أبدعت فيه وتغلبت من خلاله على ما عداه من ملكات وارتكازات..

فمرجعية السيد الخميني (قدس سره) تميزت بأدائها السياسي والجهادي الذي حقق معجزة ولادة الجمهورية الإسلامية في إيران في ظل حكومة الولي الفقيه بعد غياب قرون طويلة عن الحكم، لا اقله منذ استشهاد أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب (ع)..

هذا التمايز لم يلغ في شخصية السيد الإمام المرجع الفقيه، بل تمكن السياسي من الإستفادة من إرث الفقيه وغناه في صقل تجربته وإيصالها الى مدياتها القصوى في تأسيس الدولة التي لم ينجز الفقه الإسلامي – على تنوعه – مشروعه النهائي فيها بعد..

أما مرجعية السيد الخوئي (رض) فقد تفرغت لحماية وصيانة ما تبقى من الحوزة في سنوات الجمر الذي عاشها العراق في ظل الطاغية صدام المقبور، مما سمح لسماحته التفرغ لعلوم الفقه والأصول التي أشبعها درسا وتدريسا وبحثا وتأصيلا، حتى تخرج على يديه ومن مدرسته أغلب فقهاء الربع أو النصف الأخير من القرن الماضي..

هذه التميز الفقهي لم يلغ في شخصية السيد الجوانب الأخرى من معالم مرجعيته التي حوصرت وشردت واعتقلت واغتيلت وظلمت!

أما مرجعية السيد محمد باقر الصدر الشهيد (رض) فقد تميزت بعمقها الفكري الذي حمل الأبعاد التجديدية في الأصول والفقه والفلسفة والمرجعية..

لم يتسن للسيد الشهيد استكمال مشروعه الفكري والحضاري، لكن الآثار التي تركها أغنت المكتبة الإسلامية ومهدت لإرهاصات حركة جديدة على مستوى المرجعية التي كانت تمثل قلق السيد الشهيد ووجعه وموضوع نظرته الجدية الرشيدة..

* * * * * * * * * *

 في السياسة والفكر والفقه، أقانيم ثلاث لمرجعيات كبيرة حفرت في التاريخ الحديث للمرجعية والرسالة عميقا في الإنجازات واحتمالات النهوض والأمل..

أما السيد فضل الله (رض) فقد اخذ من السيد الإمام (رض) سياسته وجهاده – وكلهم مجاهدين، وأخذ من السيد الخوئي (رض) فقهه ودقته في محاكمة التراث – رجال الحديث تحديدا، واخذ من السيد الشهيد (رض) عمقه الفكري وأصالته المتجددة..

لم يؤسس دولة بالمعنى السياسي (الإمام الخميني)، لكنه أدخل السياسة الى بيوت الناس مع طعامهم وشرابهم، وجعلها جزءا من الصلاة والصيام، ومارسها على عفة في أداء، ونظر لها من موقع المسؤولية في الدين والفتيا وحمل الأمانة..

ووقف مع الناس في مسجده وفوق منبره يرعى يتاماهم، ويربي شبابهم، إذ ينفر نفر للدعوة وآخرين للمقاومة، استغرق في اليومي والبسيط من هموم الناس الذي لم يبعده عن الغوص في أمهات المسائل السياسية والفكرية والفقهية والحركية..

لم يكتب كالشهيد الصدر (رض) فلسفتنا واقتصادنا – وقد أصبحت كتبا نخبوية، لكنه كتب (خطوات على طريق الإسلام) إنجيل الحركات الإسلامية وكتاب العاملين في سبيل الله يستنيرون بضوء نظرياته وآدابه وحكمته وخبرته وتجربته..

وكتب (الحوار في القرآن)، قاموس المتحاورين وعدة وزاد الباحثين عن مواطن اللقاء والغنى والمثاقفة، جعل فيه عدة المحاور وأدوات عمله من أخلاق وسيرة وسنة الأنبياء..

وكتب (الإسلام ومنطق القوة) لكي يؤصل خطاب الجهاد والقوة في نفوس المؤمنين حتى لا يخضعوا لضغوط الإعلام الذي ربط القوة بالعنف.. ثم بالإرهاب! 

ثم أنه لم يستغرق في الفقه والأصول كما فعل السيد الخوئي (رض)، بل أخذ منها زاده وزاد الناس الذين أثقل عليهم بالإحتياطات وتواطوء المشهور في التنصل من الفتيا والفرار منها فرارهم من الأسد (فر من الفتيا فرارك من الأسد).

أطلق مشروعه الفكري، ثم حمل الفقه على الإستجابة لما صح وأطلق من النص والسيرة، فتجرأ على بعض الموروثات وأصلح ما بين الفقه والعلم، وأطلق عقال الإجتهاد لينصف المرأة والمذهب، فكان أن حمل عليه العامة انتصارا للتطبير، وحمل عليه الخاصة نكرانا لعلم الفلك.

وقد تمكن سماحة السيد في ظروف دقيقة أن يكون وكيلا مطلقا للسيد الخوئي ومؤيدا مطلقا للسيد الإمام واستجابة مطلقة لمشروع الشهيد الصدر في زمن كانت الأجهزة تعمل على تفتيت الساحة والنيل من المرجعية تمهيدا لإضعافها وإسقاطها، فكان السيد فضل الله الوارث المطلق لمشاريع ثلاث في الفقه والفكر والسياسة..

تنافرت وتنابذت في مواطن كثيرة، لكنها تصالحت فوق منبره في بيروت، فحملها خمسين عاما رسالة جهاد وعلم وعمل، احكم نقاط التقائها لتكون نواة مرجعية رشيدة عاشت تجربتها الخاصة المميزة والفريدة التي لن تتهيأ لشخصية أخرى كالسيد فضل الله يكون محورها ورافع شعاراتها ومؤسس فكرها وحركتها وآدابها وقاموسها اللغوي ومفردات لغتها..

تجربة عاصرت ولادة أول جمهورية إسلامية على مذهب أهل البيت (ع) في ظل ولاية الفقيه، وكان السيد فضل الله في مقدم الذين أيدوا ودافعوا وناصروا هذا الوليد المبارك.. بدون شروط، ولم يخطئ في ذلك!

وعاصرت ولادة المقاومة الإسلامية في لبنان، فأسسها ورعاها وغذاها بالفكر والخطاب السياسي الواضح الجريء وغذاها بالشباب أيضا، صنيعة منبره وفكره وروحه وأخلاقه، أيدها ودافع عنها ونصرها بدون شروط.. ولم يخطئ في ذلك!

وعاصر تجربة فريدة في رعاية المعارضة العراقية والمشاركة في بدايات التأسيس للعمل الحركي السياسي الحزبي في العراق، وتابع على ذلك في كل المراحل والمخاضات التي عاشتها التجربة بما فيها من نجاحات وإخفاقات، وكان سندا وداعما للحوزة في النجف، وسندا وداعما للمعارضة السياسية حتى تمكنت من الوصول الى الحكم في تقاطع مصالح قلق في المنطقة، فدعا سماحة السيد المعارضة للإستفادة من فرصة الوصول الى الحكم، لكنه دعا أيضا لإشهار العداء لأمريكا، وقد تمكن في آن، أن يكون الناصح الأمين للسلطة في الحكم والمرشد الجريء للمقاومة الشريفة في الشارع، في خطاب متمسك بالأصول، لين ومرن في الفروع (...).

وتجربة فلسطين ليست بعيدة عن اهتمامات السيد فكانت آخر ما هجس به من وصية ونداء: القضية فلسطين.

فقد كان يعرف عن فلسطين والفلسطينيين أكثر مما يعرف كثير من الفلسطينيين، عاش هم قضيتهم، وتابع شؤونها وشجونها، وكان أبا حريصا وموجها ومرشدا لفصائل المقاومة، كل ذلك من موقع المرجع العالم الفقيه السياسي المجاهد.. الذي أطلق خطاب القوة والمقاومة ولم يتخل عنه حتى لحظاته الأخيرة..

لن يتسنى لمرجعية أخرى، ولا لشخصية أخرى أن تعيش هذا الغنى والهم والتجربة في وسط مجموعة من الأحداث تقاطعت مع نهايات القرن الماضي وبدايات هذا القرن، وكان السيد فيها مركزا ومحورا وأصيلا.. وهدفا في سنوات البؤس الأخيرة!

التاريخ لا يعيد نفسه، ولا الرجال، لكن قدر هذه الأمة إن أرادت المتابعة أن تستفيد من تجربة هذه الشخصية الفذة، وإعادة قراءة تراثه الجم الوافر الغني، قراءة جادة رصينة وشفافة، وتدرسه دراسة نقدية مسؤولة تحليلية متخلصة من العقد والحقد..

وستكتشف لاحقا أنها ظلمت سماحة السيد، وظلمت نفسها أكثر!

 

 

                                                                

 

 

 

 

 

الكلمات الدالة