د. علي ضاهر - مونتريال
تحتلّ الهجرة مكانة متزايدة في النقاش السياسي المعاصر. نقاش تُرَكِّز عليه الجماعات اليمينية المتطرفة والقوى العنصرية التي تكنّ العداء للمهاجرين وتتغذّى منه وتسعى الى تحويله من عداء الى غضب عن طريق وصفة مبسّطة مبنية على بعض الأحداث المثيرة للعواطف المختلقة او الحقيقية. نقاش يطال العديد من دول العالم ومن بينها مقاطعة كيبيك الكندية التي لم تسلم منه بدليل هذه العناوين التي تصدّرت الأخبار في الفترة الأخيرة:
- رئيس وزراء كندا يرفض طلب رئيس وزراء كيبيك، بنقل صلاحيات الهجرة إلى كيبيك.
- كيبيك تجاوزت قدرتها على الترحيب بطالبي اللجوء وتفتقر إلى المعلمين والممرضات والسكن، بسبب تزايد أعداد المهاجرين الجدد.
- كيبيك تقوم بأكثر من حصتها في استقبال طالبي اللجوء. وتدفّق أعدادهم يمثّل مشكلة حقيقية لمستقبل اللغة الفرنسية.
- الوزير المسؤول عن الخدمات الإجتماعية ليونيل كارما ردّ على سؤال في البرلمان، حول العمال الذين ناموا مع قاصرين، وانتهى به الأمر بالقول، أن هذا خطأ المهاجرين.
- إطالة قوائم الإنتظار في الجراحة تعزى إلى ازدياد أعداد المهاجرين.
- هجرة غير الفرانكوفونيين تهديد لنسيج كيبيك الإجتماعي المتماسك.
- الهجرة الى كيبيك تساهم في زيادة الجريمة وتزيد من أعداد العاطلين عن العمل.
- رئيس حزب الكيبكوا يقول: الهجرة تضرّ بمعدل المواليد في كيبيك. إذا ازدادت أعداد المهاجرين، فلن يكون هناك سكن، ويصبح الإسكان مكلف للغاية، فيتعرض الناس لضغوط عندما يتعلق الأمر بدفع أقساط الرهن العقاري والإيجار. فهل سيتخذون القرار بإنجاب طفل أم طفل آخر؟ طبعا لا. فالأمران مرتبطان.
- رجيس ليبوم، رئيس بلدية مدينة كيبيك السابق، يهزأ من الأمر قائلا انه لا يستبعد ان يقوم ليغو، رئيس الوزراء، او سان بيير بلامندون، رئيس حزب الكيبيكوا، بإيراد حجج جديدة عن أهوال الهجرة، كالقول ان لتدفق المهاجرين تأثير ضار على صحة البروستات!!
عند قراءة هكذا أخبار نشعر بخوف من تحويل المهاجرين الى كبش محرقة وإلقاء كل مصائب المجتمع الكيبيكي عليهم. فهل فعلا هذه هي الحقيقة ام ان في الأمر تخويف لغاية في نفس العنصريين؟ ام هي تغطية لقضية بدأت تتغلغل في نفس الإنسان الغربي بشكل عام ومن ضمنه الإنسان الكيبيكي وتتمثل بخوفه من خسارة مواقع الهيمنة ومن تفلّت سلطات المجتمع من قبضته.
النقاش الدائر حول الهجرة والمحتدم حاليا في مقاطعة كيبيك، كما في غيرها من مقاطعات وعواصم الغرب، ليس حدثا عابرا. انه مؤشر لمسيرة تمسّ هوية المجتمعات الغربية والتي عادة ما ترتكز في كل بلد على محدّدات معينة تشكل الهوية التي يريدها لنفسه. في كيبيك مثلا محددات الهوية ارتكزت، حتى وقت قريب، على العرق الابيض، الفرنسي، الكاثوليكي. كان هذا العرق قابضا على مقاليد السلطات، يوم كان قويا، فكان الوضع مستقرا له وكان وقتها قادر، بسلاسة وبدون مشاكل، على فرض عناصر هوية مجتمعه. يومها كانت الأغلبية الساحقة، التي تنتمي لهذا العرق مرتاحة. لا معارضة تذكر ولا تململ يحسب له حساب من جانب المهاجر الجديد لتقبّله الإنتماء الى هوية المجتمع، بالرضى او بالخجل او على مضض. لكن، مع الوقت، أخذت قبضة العرق المحدّد لهوية كيبيك بالضعف، نتيجة لعوامل عديدة، منها:
- أزمة ديموغرافية متمثلة في تدنّي معدل المواليد لدرجة انه لم يعد في قدرة المجتمع الكيبيكي تجديد نفسه بنفسه دون ضخ دماء مهاجرة جديدة. فقد بلغ معدل الخصوبة في كيبيك 1.3 في عام 2023 بينما يحتاج المجتمع، اي مجتمع، إلى معدل خصوبة 2.1 طفل لكل زوجين للحفاظ على عدد السكان. هذا الامر ادى الى إنخفاض نسبة أهل كيبيك بالنسبة لمجموع الكنديين ولأعداد المجموعات العرقية الأخرى المتواجدة في المجتمع الكيبكي والتي تتزايد أعدادها سنة تلو الأخرى.
- تآكل في البنية الثقافية والإجتماعية والعائلية التي كانت سائدة ومحفزة ومساندة لتماسك المجتمع (وان كان المجتمع ما زال متعلق ببعض قشور تلك البنية) وحلول محلها عوامل مغايرة أدّت الى إعلاء الشأن الشخصي الى أعلى مرتبة في اهتمام الإنسان الكيبيكي الأبيض، الفرنسي، الكاثوليكي، مما جعله (العامل الشخصي) أهم وأبدى من العامل العام. ان تآكل البنية الثقافية والإجتماعية والعائلية غذَّى مبدأ الحصول على المتعة بأي شكل وبأي ثمن وحوّله الى أولوية، فاستشرت الفردية وعمّت ثقافة الإستهلاك، وشرّع زواج المثليين والمتحولين، فقلّ الزواج وكثرت المساكنة وتمّ صرف النظر عن العائلة والأطفال.
هذه العوامل أدت الى خوف ساسة وحكام كيبيك من تحوّل جماعتهم الى أقلية وذوبانها في كندا الإنكليزية وتحولها لاحقا الى اقلية ضمن المجموعات العرقية الأخرى الآخذة في الإزدياد. كما وأدت هذه العوامل لخلق شعور في نفوس أهل القومية الكيبيكية البيض، الفرنسيين والكاثوليك التي أخذت تخاف من تفلّت حبات السلطات بين أصابعها. سيّما وان العرق المسيطر يظن بأن أعداد الأقليات قد أخذ بتجاوز عتبة معينة. كل هذا يدل على تغير في مزاج أهل القومية الكيبيكية مما أدّى الى هيجان بوجه الهجرة والمهاجرين. فهناك فكرة راسخة في رأس أهل القومية الكيبيكية مفادها انهم هم من أسس مقاطعة كيبيك، وهي لهم، وما استقبالهم للآخرين الا كرم أخلاق منهم ولا يصح مطلقا لهذا المهاجر ان يتجاسر لجعل نفسه متساويا معهم. والتزايد في أعداد المهاجرين في الأعوام الماضية جاء ليساعد في هيجان الكيبيكي، الابيض الفرنسي والكاثوليكي، الذي شعر وكأنه عرضة لهجمة من قبل شعوب ليست بيضاء، غير كاثولكية، لا تتكلم اللغة الفرنسية ولا تعتمد ثقافته كمنهج حياتي لها. فعن ثقافته يقول انها "متقدمة، علمانية، ديمقراطية، منفتحة، تدافع عن المثلية وتغيير الجنس والإجهاض"، كما ويقول انها ثقافة لا يؤمن بها المهاجر بشكل عام والعربي والمسلم بشكل خاص.
هذا الهيجان الذي يعتمل في نفس الكيبيكي، الأبيض الفرنسي والكاثوليكي، تمظهر على الأرض بإنخفاض في مستوى التسامح تجاه الأقليات، سيما وان تلك الأقليات، من ناحية اخرى، ومع تزايد عديدها، قد اصبحت مرئية بصورة اوضح واكبر وأخذ بعض اعضاءها بطرح مطالب خاصة بها، لم يكن يراها واو يعيرها انتباها العرق المسيطر في الماضي، لكنه أصبح يراها نافرة ويضيق صدره بها في الوقت الحاضر. فهو مثلا أصبح يتضايق من تمويل مدارس الأقليات بعد ان كان متسامحا في الماضي؛ وصار يتضايق من رؤية زي طفلة محجبة على منشور بعد ان كان يفرح بها في الماضي واصبح يستفزه صلاة البعض (حصرا المسلمين). كما وأصبح يتضايق من النقد بدليل ثورة ثائرته من نقد وجّهه نائب عن وجود عنصرية لدى البعض.
التسامح - وليس التعنت او العنصرية – كان يعدّ في الماضي وما زال شرطا من شروط حسن عمل المجتمعات كما وكان امرا لازما للحفاظ على السلطة في المجتمعات المتعددة الأعراق حيث يتواجد عرق مسيطر. هذا التسامح كان سائدا في كيبيك في الماضي وكان مقبولا ويروج له عندما كان هناك اإستيعابا لأفراد الأقليات في المجتمع الكيبيكي. لكن ومع الوقت تراجع هذا النوع من الاندماج المرتكز على الاستيعاب، لأسباب كثيرة، لتحل محله انواع اخرى مرفوضة من ساسة ونخب كيبيك، البيض الفرنسيين والكاثوليك، مما دفع ( هذه النخب وهؤلاء الساسة) الى النظر الى الاقليات، ولاسيما العربية والمسلمة، على انها أقليات غير قابلة للإندماج في المجتمع وانها مدمّرة لسياسة الإستيعاب الثقافي المتّبعة في مقاطعة كيبيك والمستوردة من فرنسا،، بدليل النقاش الذي يعتمل حاليا في المجتمع والذي شهدنا بعضا منه مؤخرا في برلمان هذه المقاطعة والذي وصلت اصداءه الى البرلمان الفيدرالي الكندي، لدرجة ان وزير الهجرة الفيدرالي الكندي، مارك ميلر، تدخل في هذا النقاش متهما رئيس وزراء كيبك فرانسوا ليغو بإستهداف مسلمي كيبيك. لذلك الخوف كل الخوف من تحول العرب والمسلمين الى كبش محرقة فتلقى على عاتقهم مسؤولية الإحباطات التي يتعرض لها المجتمع.
* الصورة من صدى المشرق
216 مشاهدة
20 ديسمبر, 2024
69 مشاهدة
20 ديسمبر, 2024
412 مشاهدة
18 ديسمبر, 2024