د. علي ضاهر - مونتريال
محاكم التفتيش عن الهَرَاطِقَة او الزنادقة مهمتها اكتشاف مخالفي الكنيسة الكاثوليكية ومعاقبتهم. هي سلطة قضائية كنسية وضعت لقمع جرائم البدع والردة وأعمال السحر في العالم المسيحي في القرون الوسطى. فهل أصبحت مدارس كيبيك تخضع ايضا لمحاكم تفتيش يتم عن طريقها ملاحقة الأساتذة المهرطقين والموظفين الزنادقة؟ ام هي عملية مطاردة الساحرات في مدارس كيبيك؟ أسئلة مشروعة ومنطقية، لا بل من الضروري طرحها على ضوءِ الأحداث التي تجري والقرارات التي تسعى وزارة التربية سنّها لمنع الأديان، كل الأديان، من دخول مدارس كيبيك. اما في الحقيقة فهي تريد منع دين واحد حصراً، وتستهدف أَتباعه على وجه الخصوص، وهم الإسلام والمسلمين.
فوزارة التربية مدعومة بالحكومة لاحظت ان الأديان آخذة بالتسلل وإدخال البدع، الى مدارس كيبيك وكذلك الى المجتمع العام، وذلك بعد ان قام بعض المسلمين في الصلاة خلال مظاهرة مؤيدة لغزة. وهذا ما أثار حفيظة رئيس وزراء كيبيك، فرنسوا ليغو، الذي انبرى ليعلن عن "أزمة دينية" عزاها الى وجود "إسلاميين" يصلّون في الشوارع، معتبراً ان ذلك سعياً للقضاء على العلمانية، فحمل سيفه معلناً انه سيحارب الإسلاميين من أجل حماية هوية كيبيك من المهرطقين حتى لو اضطر الى اللجوء الى "شرط الإستثناء".
"شرط الإستثناء" هو إجراء يمكن لحكومة كيبيك بموجبه سن قانون وتنفيذه، ولا يمكن للمحاكم ان تنقضه، حتى ولو تعارض هذا القانون مع الحقوق الأساسية والحريات الدينية والمساواة المدرجة في المواثيق السارية المفعول. وحاليا تجري مناقشات في كيبيك حول اللجوء الى هذا الشرط بهدف تشديد الترسانة العلمانية من أجل منع "دخول الدين" والزندقة ليس فقط الى المدارس، بل وأيضا الى الفضاء العام، حتى ولو تمَّ ذلك على حساب حريات وحقوق الانسان التي تتغنى بها المجتمعات الديمقراطية.
في ضوء هذا الجو المحموم السائد حاليا في كيبيك، أطلقت وزارة التربية عملية بحث في مدارس كيبيكية عن العناصر والأفكار والممارسات غير المرغوب بها، ولاحقا تطهير المدارس من الزنادقة والمهرطقين الذين تتعارض أفكارهم وأعمالهم مع العلمانية. فجنّدت لجان تفتيش وجيّشت الوفود، وساعدت في ذلك الصحافة الكيبيكية التي راحت تبحث في مدارس كيبيك عن اشخاص يمكن ان يكونوا قد تعرضوا لكمِّ أفواه من قبل أساتذة مسلمين مهرطقين، وساندتها ايضا محطات إذاعية، قامت بإستضافة اهالي طلاب أعلنوا انهم تعرضوا لتهديدات من قبل أفراد، مسلمين طبعا، حاولوا وضع يدهم على لجان الأهل في المدارس.
وبعض كل هذه الورشة من الفحص والتمحيص توصلت الوزارة الى ان هناك:
- تغلغل "الظلامية الدينية" في المدارس؛
- تفشي مناخات سامة وحالات تدخّل من معلمين يُزعَم عن تورطهم في سلوكيات ترهيب لطلاب ومعلمين بالإضافة إلى انتهاك قوانين العلمانية؛
- تدخّل من قبل قوى في المحتوى الذي يتمّ تدريسه، فبعض المواضيع لم يتمّ تدريسها كلياً أو درست بإختصار أو بسرعة (مثل العلوم والتكنولوجيا والتربية الجنسية والأخلاق والثقافة الدينية) كما وان بعض الآباء المشاركين في مجالس إدارات مدارس يقومون بمناورات لمنع تدريس محتوى معين؛
- سيطرة "عشيرة مهيمنة من الأساتذة تتكون بشكل رئيسي من أشخاص من أصل شمال أفريقي" على بعض المدارس؛
- سلوك بعض القوى يعرض سلامة الأطفال للخطر؛
- عدم السماح لبعض المعلمات وتغيبهن عن فعاليات مدرسية يقوم بها فريق من المعلمين؛
- الأساتذة يتكلمون بين بعضهم ومع طلاب باللغة العربية في بعض المدارس؛
- "تجاوزات دينية" تتمثل في قيام صلوات اسلامية في لفصول وقيام معلمين بالوضوء أمام طلاب؛
- تلاوة أدعية دينية بدلاً من طلب المساعدة عندما يصاب طلاب بوعكة صحية؛
- غياب التنوع في بعض مدارس مونتريال، حيث نسبة عالية من الطلاب "لم يولدوا في كيبيك"، مما يساعد في غزو الدين لهذه المدارس؛
- بعض المعلمين قوَّضوا مناخ العمل في مدارس وحددوا إمكانية الوصول إلى فصولهم الدراسية للمتخصصين؛
- بعض الموظفين المسلمين لا يحترم "الحياد الديني" ولا يلتزم بالمساواة بين الجنسين ويحرم الطلاب من دروس العلوم والتربية الجنسية، مما يدل على فشل المدارس كمكان لنقل المعرفة (وليس مكانًا لنقل المعتقدات)؛
- قيام مراكز اجتماعية من خارج المدارس بالتدخل وتشويه التدريس في بعض المدارس عن طريق ممارسة ضغوطًا قوية على المدارس.
هذا غيض من فيض وجدته وزارة التربية في مدارس كيبيك. وهو غيض يصبّ كله في بناء قضية تقضي بتوجيه اصابع الاتهام الى الاسلام والمسلمين بحجة انهم يسعون لتقويض ما يسمي بالعلمانية. وهي علمانية يراد تحويلها الى عقيدة دينية لا تقبل النقاش، بل تستوجب عقاب المهرطق الذي يخالفها. لذلك ستقوم الوزارة، بدعم من الحكومة، بنشر مستشارين تربويين ومعلمين وعلماء نفس في المدارس لتحقيق هدفين: اولا تطهير ومعاقبة كل من يتجرأ على مس العلمانية، وثانيا دفع الطلاب لحب العلمانية.
هذه هي اولى اولويات وزارة التربية التي تؤلف اللجان لتحقيقها. فيا حبذا لو قامت وزارة التربية بنشر مستشارين تربويين ومعلمين وعلماء نفس في المدارس للتحقق من جود القِيَم التي مازالت تعني شيئًا لغالبية الناس مثل الشرف، الوفاء، الشعور بالواجب، الجدارة، الجهد، وخلق الشعور بالجماعة. ويا حبذا لو قامت الوزارة بالعمل الحثيث لتربية الطلاب على قيم الفخر وألاجتهاد وجعلهم أناس ملتزمين بالواجب وزرع فيهم قيم الاحترام والمساعدة المتبادلة ودفعهم للإرتباط بالأرض والعائلة وليس جعلهم مستهلكين مرتبطين بالممتلكات المادية! ويا ليت لو تسعى الوزارة الى تأليف لجان تعمل على محاولة انتشال الطلاب من تركيز جل همهم على التمحور حول الذات والانقطاع عن العالم والغرق في الأنانية. وياليتها تعمل على إنقاذهم من العيش في فقاعة إجتماعية يشعرون فيها بالغربة في عالم افتراضي، بارد، حيث القيم تفقد زخمها وتسقط في حالة من الإهمال.
يرجى ان تكون هذه الحملة سحابة صيف تمر بسرعة او بمثابة ضجيج انتخابي من قبل حكومة ليغو أو عبارة عن تكتيك لتشتيت انتباه حكومته التي تراجعت اسهمها في استطلاعات الرأي. على كل حال، على المستهدفين من حملة التطهير هذه ولا سيما النخب ان تحتاط مما قد تحمله الايام من تحامل!
*صورة المادة الخبرية من موقع freepik لأغراض توضيحية.
271 مشاهدة
28 ديسمبر, 2024
235 مشاهدة
24 ديسمبر, 2024
494 مشاهدة
24 ديسمبر, 2024