Sadaonline

سترحلين مع النظام!

للسيدة رب يحميها!


 طلال طه - مونتريال

(قصة كسيرة)

.. لا أحد يذكر من الذي نبت أولا في هذا الحي، السيدة الجليلة أم البيوت الفقيرة التي تراكمت عبر السنين، كبار السن من الشيوخ يذكرون أنها كانت هنا، الذين هاجروا ثم عادوا بلكنات غريبة قالوا إنها كانت هنا وقد حدثهم عنها آباءهم، الذين ولدوا في هذا الحي والذين هاجروا إليه والذين عبروا من الفقراء والبسطاء والدراويش والطيبين يعرفون أنها هنا، في هذا البيت المقفل على سنوات طويلة من الأسرار.. الكل يتحدث عن السيدة الجليلة، سيدة الفضيلة والخفر والمهابة والخطابة..

النساء يقلن إنهن لم يرينها رغم زياراتهن المتكررة لبيت أسرارها المقفل على الصلاة والدعاء والحياء، كانت تطل عليهن من عتمتها فيكشف نورها عن وجه بلا ملامح وعيون مقفلة على دمع حبيس، ينحنين على تعب مزمن فتوزع عليهن حاجتهن من الأدعية والبركات والتعاويذ لإنجاب الذكور وطلب الرزق وشفاء المرضى، ثم يتناولن من بين يديها فرات الماء والخبز الطازج وشيئا من التراب.. يقلن به شفاء!

.. يقول الراوي: أن السيدة الجليلة نبتت هنا كشجرة في صحراء قحط، ثم آوت ما شاء الله من الطيور، ثم استظل فيئها الرعاة، ثم جعل أفئدة من الناس تأوي إليها، فانبثقت من جنباتها اثنتا عشر عينا تفيض بالدمع بعض أيام السنة، ثم يتابع بعدها الماء سهره على الحياة!

الأكثر جرأة من الرواة يزعم أنها هنا منذ زمن أزل، يطوي ذاكرته على أحرف غير مقروءة ويبتسم عن شجرة العائلة كأنه يراها، جذورها عميقة في الأرض وفروعها في السماء، يفكك ألغازها، ويعالج بعض أغصانها، ويوزع من ثمرها على الأحياء المجاورة!

يتابع الأكثر جرأة: السيدة الجليلة نبوءة صادقة، زرعت في هذا الحي من الصحراء، ثم نبت العشب تحت أقدامها وانضمت شجرات مثمرات الى شجرتها ثم استقام مسكنها المتواضع على درب من الدروب المؤدية الى البحر.. حيث يستريح نبي من تعب الجليل فوق ربوة عرفت طعم نبيذه ووجعه المصلوب أمام الريح!

كان الأسود يليق بها، وكأنه لا يليق إلا بها، تلقي بظلها على الألوان، وبصمتها على الأصوات فيصطف الناس على جانبي الشوارع والحواري برؤوس محنية على ورع فتوزع سكينتها على الحي ليأخذوا من ظلها ما شاء لهم من الخبز والدفء والصلاة!

كانت إذا تكلمت يرتج على الناس، تنطق عن نبي أو وحي نبي، شيئا من لغة الجنة ومفردات الفردوس فيغدو الثواب والعقاب متعة في رحلة البلاغة، ويعود الناس الى أشغالهم مطمئنين الى رزقهم في الدنيا والى سررهم في الجنة!

ساكنة البيت، سيدة المهابة والفضيلة، لم يتحدث الرواة عن بيت، بل تحدثوا عن غرفة لا يحدها شكل، بنيت على عجل بطين طين، عجن بماء طهر ليدخل النور من جهاتها الست، تطل من نوافذها على فقراء الناس، تحدب عليهم، توزع في الليل من النور ما ينير سبيل العاثرين، وتوزع من البركات ما يطمئن قلوب الحيارى، والذين يجاورون السيدة يتصرفون في حيواتهم على وقع توقيتها للرجاء والخلاص!

* * * * * * * * *

.. ثم جاءت الحرب على سوريا، وسيدة الصمت تعتصم في غرفتها، وغبار المسافات لم يفت عضدها أو يضعف همتها، والصمت الذي تراكم فوق حكايتها جعلها قصصا قصيرة مشوقة في مخيلات وأفواه الرواة والقصاصين وجلسات النسوة اللواتي لا يتعبن من حديث السيدة!

بدأ الخوف يضرب القلوب وجوانب الحي، وبدأت القذائف تسقط في اللامكان، وأعداد الناس في تناقص، وبدأت حكايا الموت تأخذ نصيبا وافرا من أخبار أهل الحي الذين استفاقوا على عبارات خبيثة كتبت بيد مرتعشة: "قريبا.. سترحلين مع النظام"!

انتشر الخبر سريعا، تنفسه الناس مع الهواء، ثم توزع في الأحياء المجاورة، فارتفع صوت الآذان يدعو أهل الحي الى الصلاة، ثم قام في الناس خطيبا: إنهم يهددون سيدة الصلاة، هذه السيدة الجليلة تعيش معنا - قبلنا، هي سيدة الطهارة والصلاة والنور والكلمة والصمت.. يقولون أن لها أولادا وأحفادا يقاتلون مع النظام!

الأعلى صوتا استنكروا تهديد سيدة الخفر والورع، والأقل جرأة تهامسوا فيما بينهم: لماذا سيدة الصلاة!

المهمشين والطيبين والضعفاء من الناس قالوا: للسيدة رب يحميها!

في الليالي التي تلت، ارتفع استهلاك الماء للوضوء، وانشغل الناس عن الوجوه الأليفة التي عالجت خوف الناس بالبسمات، وعالجت الكهرباء بالسهر، والولادات الجديدة بحسن تسمية الأبناء!

.. ثم في ليل عتمة وغضب، بدأت القذائف تتساقط فوق منازل الأحياء الفقيرة مثل أمطار الشتاء، قليلة هي البيوت التي لم تنل حصتها من الدخان والحريق والموت!

خرج الناس من خلف جدرانهم التي عطبها الوجع المر والحقد الأسود، ثم خرجت سيدة المكان مجللة بكبريائها، ينفض الغبار آثاره عن كتفيها، سارت بأسودها ونورها بين دخان الحرائق، وتوزع فتية مقطوعي الأيدي على ضفاف الماء، وأطفالا مذبوحين بسهام العطش، ونسوة مكسورين على مطايا عارية.. ثم تمدد صدرا على الرمل قد حفر فيه الحقد أثلاما، ورأسا في طشت على باب الإمارة.. فقامت السيدة الى منبرها، تصوغ من الكلمات سياطا تضرب بها ظهر الجلادين، فيرخى الطير على رؤوس القوم قبورا من صمت وهلع!

ثم كشفت شمس جريئة عن يوم واعد، انطفأ الغبار في جنبات الحي، وساد صمت جنائزي، ثم ارتفع صوت الآذان معلنا أن لا يزال محمدا رسول الله (ص)!

بعدها خرج فتية الى مضاجعهم، وأعلنوا دمهم ورصاصهم، ثم توزعوا في المدن والقرى والمساجد وشواهد القبور.. بعدها عادت زينب (ع) الى المقام، وعاد أهل الحي الى وفائهم، دفنوا موتاهم وأحصوا ولاداتهم الجديدة، رفعوا ما سقط من أحجار البيت، وأعادوا تحديد وجهتهم نحو القبلة بعد أن عبثت الأيدي ببوصلة الصلاة!

قصة حقيقية.. أو تكاد!

  • وجد حراس مقام السيدة زينب (ع) الموجود في ضاحية دمشق على جدرانه، العبارة التالية الموجهة الى السيدة الجليلة حفيدة رسول الله (ص):  "قريبا.. سترحلين مع النظام"..

* الصورة من ويكيبيديا

 كتبت في : 25 / 05 / 2014

الكلمات الدالة