Sadaonline

زيارة الأربعين والحاج كومبوستيلا!

زيارة الحسين (ع) تستحق المبادرة والمعايشة


طلال طه ـ مونتريال

كنت قد تمتعت منذ سنوات بقراءة الرواية الرائعة للكاتب البرازيلي المبدع "باولو كويلهو" تحت عنوان "حاج كومبوستيلا"، ولم يخطر ببالي في حينه أن أعقد هذه المقارنة بين حج فئة من المؤمنين الى مزار القديس يعقوب في كومبوستيلا في اسبانيا والتي تبلغ حوالي الـ 800 كلم تقريبا، وبين مسيرة الأربعين التي يقوم بها المؤمنون بين مقام الإمام علي (ع) في النجف ومقام الإمام الحسين (ع) في كربلاء.. هذه الرحلة التي تتجاوز الـ 80 كلم تقريبا سيرا على الأقدام!..

ومصادفة، تقاطعت حالة كسل أصابتني مساء السبت الماضي فوقعت على فيلم "the way" للممثل القدير مارتن شين يتحدث عن نفس الموضوع، وهي رحلة الحج الى القديس يعقوب في كومبوستيلا!..

ولما كان المؤمنون يستعدون هذه الأيام لزيارة الإمام الحسين (ع)، خصوصا أولئك الذين يتعبدون بالزيارة سيرا على الأقدام بين النجف وكربلاء، انفتحت أمامي آفاق عقد مقارنة في رؤية الإنسان لفكرة الحج سيرا على الأقدام لدى الأديان والأفكار والمعتقدات، وخصوصا فيما يتعلق بالإنسان الذي – رغم تنوعه وتفرده وتميزه – يبقى معلقا بفكرة أن هناك غيبا يقبع في مكان ما، فوق هذه البسيطة، وأن هناك ما يستحق المغامرة من أجله، لأنه له علاقة بغيب السماء، لا بد فيه من إنهاك الجسد لينطوي لاحقا على روح مطمئنة!..

فكرة الرواية: عندما باشر الكاتب الحج الى مزار القديس يعقوب في كومبوستيلا، لم يكن يعلم أنه سيعود من تلك الرحلة متغيرا. ففني نهاية رحلة محفوفة بالتجارب، يدرك أخيرا أن غير المألوف يوجد على طريق الاشخاص العاديين.. والحقيقة متوافرة لجميع الناس، وأن المعاناة والإصرار على الوصول الى القديس يترجم اكتفاءا وارتواءا وشبعا روحيا من صلاة يتعبد بها سيرا على الأقدام، تحت سماء تتطلع الى الحجاج وترعاهم في صدقهم وسيرهم وصيرورتهم!

فكرة الفيلم: مارتن شين (جاك) طبيب العيون الأمريكي يأتيه خبر وفاة ولده الوحيد في جبال البيرينيه في فرنسا وهو يحاول الحج الى القديس يعقوب في كومبوستيلا سيرا على الاقدام، الطبيب الذي يصدم بوفاة ولده الوحيد قرر – وهو الملحد الذي لا يمارس ولا يؤمن بأي دين – قرر أن يواصل رحلة ولده، فطالب السلطات بإحراق الجثة وحمل رمادها معه وراح يوزعها في محطات الإيمان على الطريق الطويلة الى مزار القديس يعقوب!..

في الطريق يلتقي بآخرين من دول عدة ومن خلفيات مختلفة تجتمع مصائرهم في ظروف هذه الرحلة، ويكتشف أن – مثله – هناك أناس آخرون يبحثون عن حلول لمشاكلهم عبر هذا السير الطويل الذي ينهك الجسد ويغري الروح بالمتابعة..

في محطات كثيرة وبعد أن ينثر رماد ولده يشعر جاك أن ابنه كان محقا حين قرر القيام بهذه المغامرة الروحية.. القاتلة!..

فكرة الزيارة الأربعينية: تنطلق من الإيمان بأن هذه الرسالة وروحها لم تترك لقدر عائلات ثلاث تتحكم بصيرورة خاتمة الرسالات، الأمويون والعباسيون والعثمانيون عبثوا بجوهر هذا الدين، وحاولوا طمس معالمه الروحية وتحويله الى طقس كنسي وطريقة دراويش!..

.. ثم كان الحسين (ع)، يغذ بالسير من مكة الى كربلاء، ثم كانت زينب (ع) ترهق بالسبي بين كربلاء والشام، ثم جاء المؤمنون ليعلنوا انتماءهم لهذا المسيرة عبر الوصل بين الأب وابنه (ع)، شهيدي نبوءة صادقة وواقعة مصدقة، قدرين في تاريخ هذه الرسالة لكي يستقيم حج الناس الى الله، الى القيم التي أرادها الله في حياة هاذين القديسين، علي والحسين، ما يفصل بين مرقدهما ثمانون كلم يملأها الملايين من "المشاية" بطقوس متفرعة من أصول في الحب والوصل والولاء..

تبدأ الزيارة بالنية، وتختم بنية العودة، ثم احمل عصاك وامش، أمر الأنبياء بحمل العصا، ففيها منافع كثيرة، وفي الطريق الى كربلاء لا تدع عصاك لآنها تذكرك بأنك تجاوزت الخمسين، وأن هناك رحلة أخرى لا بد من الاستعداد لها، وزيارة الحسين (ع) جزءا من المقدمات بين يدي هذه الرحلة!..

في الفيلم يتوقف جاك في كنائس وأديرة أعدت فيها أسرة للحجاج الذين لا يتجاوزون العشرات أوالمئات وتقدم لهم بعض الخدمات من المأكل والمشرب والراحة، أما في طريق كربلاء، في الزيارة التي تشكل أكبر تجمع بشري في التاريخ حسب احصاءات واعترافات مؤسسات دولية معروفة، والتي قد يصل عدد الزوار فيها الى ما يتجاوز العشرين مليون زائر، فالتوصيات التي يرسلها المنظمون تتحدث عن الخدمات والتعليمات والمعلومات التالية:

  1. تتوزع الطريق بين النجف وكربلاء الى 1452 عمود، ويوجد عند بعض العواميد التي عممت أرقامها على الزائرين وحدات خدمة خاصة مثل الطبابة والمفقودين وغيرها..
  2. على كل الطريق يوجد حملات حسينية معدة ومستعدة لاستقبال الزوار للمبيت بعد صلاتي المغرب والعشاء والأكل والاستراحة.. مجانا!
  3. حمل حقيبة ظهر خفيفة كالتي حملها جاك في الفيلم، وهي حقيبة ابنه المتوفى في طريق الحج الى مزار القديس يعقوب، والتخفف من الأغراض والأوزان..
  4. لا داع لحمل الماء والطعام لأنه متوفر على طول الطريق وبكميات كبيرة وكل الأوقات.. ويؤكد على حمل الأدوية الخاصة وجواز السفر وتلفون نقال وغيرها من المستلزمات الضرورية لرحلة سير على الأقدام طويلة وخاصة من الملبس والحذاء وغيره..
  5. 5)    التأكد من صحبة القرآن كتابا أو محمولا على أحد الأجهزة السمعية الحديثة إضافة الى الأدعية وغيرها من الصوتيات التي تساعد على تمضية وقت المسير في الطاعة والتزود..
  6. خلال الرحلة يمكن دائما لأي زائر أن يستقل باصا أو سيارة للوصول الى كربلاء في حال التعب أو المرض أو الاضطرار..

الزوار في حجهم الى القديس يعقوب في كومبوستيلا وعشرات الملايين في زيارتهم لمقام الإمام الحسين (ع) وأخرون لا نعرفهم لهم في الدين والارتباط بالمطلق مزاراتهم الخاصة يسيرون في طريق الرجاء الى جانب آخرين لا يعرفونهم، يأتون من بلاد بعيدة على أمل القيام بتجربة روحية فريدة يعزون أنفسهم بأن المزار والمزور يملك من الكرامة والمنزلة الشفاعة ما يجعل حياة هؤلاء الملايين من البشر أكثر علقة بالغيب الذي ينطوي على جنان أخراهم تعوض عليهم ما خربه الإنسان في دنياهم!..

ما بين الرواية التي تحولت الى فيلم، وبين الحقيقة التي يعيشها زوار الإمام الحسين (ع)، يبقى السؤال: كيف يمكن لهذه التجربة الروحية الخالصة في شخصانيتها أن تتحول من مسير جماعي الى مصير جمعي ينطلق من عهد على (ع) لمالك الأشتر وينتهي بشعارات الحسين (ع) في كربلاء؟

رواية باولو كويلهو تستحق القراءة، وفيلم مارتن شين يستحق المشاهدة، أما زيارة الحسين (ع) فتستحق المبادرة والمعايشة!..

باولو كويلهو وجد نفسه بعد حجه الى مزار القديس يعقوب، وهكذا فعل جاك الذي قدر لولده خياره وكافأه بأن وزع رفاته على الطريق المقدس الى المزار.. فهل يوفق زوار الحسين (ع) لسماع خطبة علي (ع) لهمام في المؤمنين.. الى نهايتها؟

 

 

 

 

 

 

 

الكلمات الدالة