Sadaonline

تشجيع زيادة الولادات وتعميدهم: مشروع أيديولوجي أم رد فعل حضاري؟

كشف الملياردير الفرنسي بيار-إدوارد ستيرين عن رؤيته لمستقبل فرنسا، داعيًا إلى تشجيع الولادات "ذات الأصل الأوروبي

د. علي ضاهر

 

لم أبتدع هذا العنوان بل استندت فيه إلى تصريحات للملياردير الفرنسي ستيرين، الذي قرر أن يخلع ربطة عنقه الاستثمارية، ويشمّر عن ساعديه مرتديًا قلنسوة المبشّر. ففي مداخلة عبر الإنترنت، كشف عن رؤيته لمستقبل فرنسا، داعيًا إلى تشجيع الولادات "ذات الأصل الأوروبي" وضمان تعميد هؤلاء الأطفال. لم يكتف بذلك، بل وسّع دعوته لتشمل تبشير غير الكاثوليك والكاثوليك السابقين، متحدثًا عن خطر الانقراض إن لم تُنجب فرنسا المزيد من الأطفال البيض المعمّدين. وبصفته مؤسس شركة "ستار بوكس" المتخصصة في بيع صناديق الهدايا، كما يوحي اسمها، قرر أن يتحول من موزع هدايا إلى موزع وصايا على النساء عن كيفية الإكثار من الولادة. ثم تقمّص دور الكراز، المبشّر بأمر الله داعيًا غير الكاثوليك الى الإيمان بتعاليم المسيح والكاثوليك إلى التوبة والعودة إلى رحاب الإيمان. ما يوحي بأن الرجل لا يكتفي باستعادة المرتدّين، بل يسعى إلى تعبئة الصفوف بحملة صليبية تطال الخليقة جمعاء.

 

تصريحاته لم تكن وليدة لحظة تأمل، بل جاءت انعكاسًا صريحًا لأطروحات اليمين الأوروبي، الذي يرى في تراجع نسب الولادات لدى الأوروبيين البيض تهديدًا وجوديًا، ويعتبر أن استعادة السيطرة على الوضع تبدأ من المهد. فهل ستتطابق حسابات حقل اليمين الأوروبي مع نتائج بيدره؟ وهل ستسارع نساء أوروبا البيض، الشقراوات، الملط، إلى الانصياع لنصائحه، والعودة بفرح ومرح إلى المطبخ، وغرف الأطفال، أي إلى النظام الأبوي البطريركي، تاركات خلفهن طموحاتهن المهنية، إرضاءً للمبشّر الفقيه ستيرين، الذي قرر أن الحضارة الغربية بحاجة إلى دفعة ولادات؟ وهل سنشهد قريبًا إعلانًا تلفزيونيًا، تظهر فيه امرأة شقراء الى جنبها رجلا وبينهما "دستة" أولاد، يقول: "أنجبوا طفلاً أبيضا... تنقذوا الحضارة"! وربما قد يضيف سترن صاحب شركة صناديق الهدايا بطاقة مكتوب عليها: "شكراً لإنجابكم، لقد ساهمتم في إنقاذ الغرب، فقد ربحتم صندوق هدايا!"

 

تصريحات ستيرين تذكر بالأحاديث التي تدعو المسلمين الى الإنجاب، وكأنه قد تتلمذ على يد فقيه يولي أهمية للعائلة والولادة ويحثّ الى زيادة اعدادهم للمفاخرة. لكن المفارقة أن هذا الخطاب، الذي لطالما اعتُبر حكرًا على مجتمعات معينة، بات حالياً يُستخدم من قبل نخب أوروبية لتبرير سياسات تشجع على الإنجاب داخل فئة محددة: الأوروبيين البيض المسيحيين المعمّدين. إنها محاولة لإعادة تشكيل الهوية على أسس عرقية ودينية، في مواجهة ما يعتبره جهابذة اليمين الأوروبي خطرًا ناتجًا عن الهجرة من دول الجنوب.

 

بالتوازي مع تصاعد هذا الخطاب الداعي إلى زيادة الولادات، تتكاثر في نفس الوقت الدعوات في الغرب للتخلّي عن مفاهيم العولمة والانفتاح وحقوق الإنسان، باعتبارها ترفًا لم يعد بالإمكان تحمّله. وهي دعوات لم تعد مجرّد تنظيرات، بل بدأت تتجسّد في سياسات عملية. ففي فرنسا يتصاعد الخطاب المعادي للإسلام بشكل لافت، كما تجلّى في هتاف وزير الداخلية برونو ريتايو: "تحيا الرياضة، يسقط الحجاب!" خلال تجمع نظّمته مجموعة "تحرّك معًا" المقربة من إسرائيل. الهتاف لم يكن زلّة لسان، بل تعبيرًا عن مزاج سياسي آخذ في التشدد. في إسبانيا وفي مشهد أقرب إلى مطاردة جماعية منه إلى استقبال إنساني يعكس تحوّلًا في المزاج الشعبي، قام مواطنون بمطاردة مهاجرين وصلوا إلى شاطئ "كاستيل دي فيرو" في أغسطس 2025، ورموهم أرضاً واحتجزوهم بانتظار تسليمهم الى الشرطة. وفي ألمانيا والنمسا والمجر: تشهد هذه الدول تشديدًا متزايدًا في الرقابة على الحدود، وإنهاء ما كان يُعرف بـ"ثقافة الترحيب"، مع صعود لافت في شعبية الأحزاب اليمينية المتطرفة التي تروّج لخطاب الهوية والانغلاق. وهكذا هي الحال في بريطانيا حيث طرح حزب الإصلاح بقيادة نايجل فاراج خطة لترحيل المهاجرين والانسحاب من الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان. هذا النموذج بدأ يلقى صدى في دول أوروبية أخرى، حيث تُدرس إمكانية ترحيل طالبي اللجوء إلى دول خارج الاتحاد الأوروبي، مثل رواندا أو ألبانيا، عبر ما يُعرف بـ"محاور العودة" وهي مراكز تنفيذية تُنشأ داخل أو خارج حدود الاتحاد الأوروبي، لفحص ملفات المهاجرين وتحديد من يحق له البقاء ومن يجب ترحيله. اما في الولايات المتحدة، فيكفي ذكر الاعتقالات وزجّ    المهاجرين في السجون والطائرات وارسالهم الى الخارج في تحدٍ واضح لحقوق الانسان واللجوء. والحال ليست بسمن على عسل في كندا حيث يتمّ التشديد وإلصاق كل المصائب بالمهاجرين في حملة عنصرية جديدة سوف تزخم مع كل القوانين التي يفكرون بها! لذا يمكن الاستنتاج ان ما نشهده ليس مجرد رد فعل عابر، بل لحظة انعطاف، حيث يُعيد الغرب النظر في الأسس التي قام عليها مشروعه. في هذا السياق، لا يبدو خطاب ستيرين وغيره من رموز اليمين مجرد رأي فردي، بل مؤشرًا على تحوّل في المزاج نحو الانكفاء والانغلاق، وإعادة تعريف "الهوية" على أسس عرقية ودينية، وكأنهم يهمسون للمواطنين: انسوا الحرية، انسوا الديمقراطية، انسوا الشرعة العالمية لحقوق الإنسان، انسوا التضامن... فهذه مفاهيم لم تعد نافعة، بل جلبت الويلات والمصائب ومن الناس ما هبّ ودبّ!

 

هي صرخة، وإن كانت موجهة للإنسان الغربي الابيض، فإن غير الغربي الملون، الذي يعيش في الغرب أو يحمل جنسيته، عليه أن يصغى اليها. فاليمين العنصري قادم، ومع قدومه قد يترحّم كثيرون على زمن اليسار والليبيرالية الذي ساد بعد الحرب، حين كانت مفاهيم التعدّدية والانفتاح والتضامن تُعتبر فضائل. فبحسب مُنظّري اليمين الجديد، لم يعد هناك وقت للترف والفذلكة الفكرية، بل هناك مهمّة عاجلة: إعادة عجلة التاريخ إلى الوراء، في محاولة لتأجيل الانحدار وذلك بالتصدّي للقبضات التي تدقّ الأبواب من داخل الحصون ومن خارجها.

 

*الصورة المرفقة هي رسم كاريكاتوري مولَّد بالذكاء الاصطناعي عبر أداة ChatGPT