سماحة الشيخ محمد عمراني ـ اوتاوا
يقول الله تعالى في محكم كتابه العزيز: "وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ" (الأحقاف: 17).
هذه الآية تصور حدثًا مأساويًا يعبر عن صراع الأجيال: أبوان مؤمنان صالحان يبذلان جهدهما لإقناع ولدهما الكافر بالإيمان بالله، لكنه يرد عليهما بتضجر وإهانة قائلاً: "أفٍ لكما." لم يكتفِ بهذه العبارة، بل أكمل: "أتعدانني أن أُخرَج؟" مُستهزئًا بفكرة البعث والقيامة، مستندًا إلى منطق خاطئ أن من ماتوا قبله لم يعودوا، متجاهلًا أن الإيمان بالبعث متعلق بنشأة أخرى، وليس عودةً إلى الحياة الدنيا.
تحديات الدعوة في العصر الحديث:
الآية الكريمة تلقي الضوء على قضية أزلية تمتد إلى زماننا. اليوم، نواجه جيلاً جديدًا مختلفًا جذريًا عن الأجيال السابقة. المعرفة الحديثة والتجارب العلمية والفلسفات المادية أثرت في طريقة تفكيرهم. كان الإيمان في الماضي بسيطًا؛ يكفي أن يسمع المرء آية قرآنية أو يقرأ حديثًا ليخشع قلبه. أما اليوم، فالشاب محاط بكمّ هائل من المعلومات والانتقادات والتجارب.
الفلسفة المادية تقدم أدلة حسية ومباشرة تبدو بسيطة لكنها تحمل تأثيرًا قويًا على عقول الناس. مثال على ذلك فكرة التطور التي تُعرض بأسلوب سهل مستساغ يُقنع العقول السطحية مع أدلة حسية. على الجانب الآخر، يقدم الدين معارفه بأسلوب يحتاج إلى تدبر وتفكر.
أهمية الحكمة في الدعوة:
الدعوة الإسلامية اليوم بحاجة إلى تطوير أدواتها وأساليبها لتواكب متطلبات العصر. القرآن يدعو إلى الحكمة في الدعوة: "ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ" (النحل: 125). الحكمة تقتضي فهم زماننا وتغيراته، والتعامل مع مختلف العقول والمستويات الفكرية بما يناسبها.
الإمام جعفر الصادق عليه السلام يقول: "سيأتي قوم في آخر الزمان يتدبرون سورة الحديد فيجدون فيها علومًا لم يجدها من قبلهم." هذا الحديث يشير إلى أن تطور الفكر البشري سيرتقي لفهم أعمق للقرآن الكريم، خاصة في معارف التوحيد.
الإمام زين العابدين عليه السلام يقول: "علم الله عز وجل أنه يكون في آخر الزمان أقوام متعمقون، فأنزل الله تعالى: قل هو الله أحد، وآيات من سورة الحديد إلى قوله وهو عليم بذات الصدور، فمن رام وراء ذلك فقد هلك." هذا يوضح أن الله عز وجل يراعي في دعوة الناس احتياجات العقول المتعمقة في فهم التوحيد في الأزمنة المتأخرة.
الإمام علي عليه السلام يقول: "العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس." أي أن العالم الذي يعي تغيرات زمانه وما يحمله من تحديات فكرية وثقافية، يكون مستعدًا لمواجهتها، ولا تفاجئه الأفكار والمغالطات التي قد تهدد أبناء أمته.
خطوات لمواجهة التحديات الفكرية
1. تعميق الفهم العقلي والديني: يجب على الدعاة التزود بالمعرفة العميقة لعقائد الدين، بما يشمل الإجابة على شبهات الفلسفات الحديثة مثل نظرية داروين والانفجار العظيم وغيرهما من النظريات النفسية والاجتماعية.
2. تعليم التفكير النقدي: تعليم الجيل الجديد كيفية التفكير النقدي وتمييز الحق من الباطل دون خوف من الانتقاد.
3. خلق بيئة آمنة للحوار: توفير مساحة للشباب لطرح أسئلتهم دون خوف من التهميش أو الحكم عليهم.
4. توظيف الأدوات الحديثة: استخدام التكنولوجيا ووسائل الإعلام الحديثة بشكل فعّال لتقديم الإسلام بأسلوب ينافس الخطابات الأخرى.
5. فهم تنوع العقول: إدراك أن الناس يختلفون نفسيًا وفكريًا، ما يتطلب خطابًا متنوعًا يتناسب مع الجميع.
الخلاصة
الإسلام دين صالح لكل زمان ومكان، لكن الدعوة إليه تحتاج إلى حكمة ووعي عميق بالواقع المعاصر. على العلماء والخطباء أن يكونوا قادة في الفكر والمعرفة، متسلحين بالعلم والحكمة لتقديم الإسلام بحلته الأصيلة المتجددة، فيرتقي ليكون الخيار الأفضل لعقول وقلوب الناس في هذا العصر.
58 مشاهدة
20 يناير, 2025
275 مشاهدة
10 يناير, 2025
185 مشاهدة
10 يناير, 2025