Sadaonline

مواطنة... نجاح رغم التحديات

القدوة تبدأ من الأهل. والانخراط في العمل المجتمعي والحرص على المشاركة الإيجابية، هما الركيزتان الأساسيتان في بناء علاقة متوازنة مع المجتمع المحيط

سامر مجذوب ـ مونتريال

‎في نهايات شهر يونيو/حزيران ، منذ ‎ما يقرب من أربعة عقود، وصلت عائلة عربية إلى مطار ميرابل خارج مدينة مونتريال في مقاطعة كيبيك ، كندا . 
‎كما أبناء ذلك الوطن الصغير في المشرق، حيث جواز السفر من شروط الولادة، لم يكن بالنسبة للعائلة "انتقالها الجغرافي" هو الأول . فمن ثلاث قارات أقامت فيها سابقا إلى القرار بالهجرة الحقيقة إلى القسم الشمالي من القارة الأمريكية، حيث الثلج والجمال، والأهم في تلك الفترة الزمنية كان السعي الى الأمان والفرص.
‎لم يكن قرار الهجرة مغامرة، بل كان بحثًا عن الاستقرار وبناء مستقبل أفضل. اختارت العائلة منطقة  الضاحية الغربية لجزيرة مونتريال و لم تغادرها منذ ذلك الحين. هناك نشأ الأبناء، وتعلّموا، وعملوا، وأصبحوا جزءًا لا يتجزأ من النسيج الكبيكي و الكندي . لقد انخرطوا في مجتمعهم بإيجابية، وأسهموا في بنائه دون أن يتنازلوا عن معتقداتهم أو يفقدوا هويتهم.
‎لم تكن المسيرة خالية من التحديات. صعوبات التأقلم و خصوصا مع قساوة فترات فصل الشتاء ، واختلاف الثقافات، ومحاولات التوازن بين الأصل والانتماء الجديد، جميعها محطات لم تكن سهلة. لكن المواجهة لم تقم على الرفض أو العزلة، بل على الانفتاح المتزن، والاندماج الواعي. فالمواطنة هنا لم تكن مجرد حق قانوني أو امتياز اجتماعي، بل قناعة عميقة بأن الوطن هو المكان الذي تُبنى فيه الحياة، وتُمارس فيه المسؤولية، ويُصنع فيه المستقبل.
‎ولم يكن هذا المفهوم قاصرًا على الجيل الأول من العائلة، بل ورثه الأبناء، ذكورًا وإناثًا، الذين وُلدوا على هذه الأرض، وتشكّلت شخصياتهم ضمن واقعها الثقافي والاجتماعي. هؤلاء الأبناء يعرفون وطنًا اسمه كندا ، و ينتمون إليه . وهذه حقيقة لا يمكن إنكارها: الاستمرارية في المواطنة ليست ترفًا ولا خيارًا هامشيًا، بل ضرورة وجودية. فحين يُسحب من الأجيال شعور الانتماء، يشعرون بأنهم في موقع أدنى، كما لو أنهم مواطنون من درجة ثانية أو ثالثة، وهو أمرٌ خطير على تماسك المجتمعات.

‎الأسرة التي بدأت رحلتها منذ عقود كانت حريصة على غرس هذا الوعي مبكرًا في نفوس اولادها، إدراكًا منها أن التربية لا تُؤجّل، وأن القدوة تبدأ من الأهل. فكان الانخراط في العمل المجتمعي، والحرص على المشاركة الإيجابية، هما الركيزتين الأساسيتين في بناء علاقة متوازنة مع المجتمع المحيط . لم يكن هناك تضاد بين الحفاظ على الهوية والمشاركة الفاعلة، بل تكامل يغني كلا الجانبين.
‎واجهت العائلة، كغيرها من العائلات المهاجرة، محطات صعبة، لكن الأمل لم يتراجع، والإصرار لم يضعف. كان النجاح ثمرة صبر، ونتيجة فهم عميق لمعنى أن تكون مواطنًا في وطن يحتضنك دون أن يُخضعك للتنازل أو تقبل بالتنازل عن حقوقك الإنسانية . وهكذا، استمرّت الرحلة، دون يأس، ودون انقطاع، مبنية على الإيمان بأن المواطنة فعل متواصل، وليست لحظة عابرة.
‎اليوم، وبعد كل هذه السنوات، لا تزال الخطوات تمضي بثبات، ولا تزال القيم ذاتها تُنقل من جيل إلى آخر. أما البوصلة فواحدة: أن يكون السعي دومًا نحو الخير، والمشاركة و البناء ، والعدل، وفي كل ذلك، رضا الله هو الغاية الأسمى، فمن دونه لا بركة، ومعه يكون الطريق مباركًا مهما تعدّدت التحديات.

* الصورة من freepik لاغراض توضيحية فقط