Sadaonline

حكايا عدد من الشهداء والمفقودين في غزة على لسان إخوتهم المقيمين في كندا

الدمار في غزة


دارين حوماني ـ مونتريال

 

جعلت مأساة غزة التاريخية، التي لا مثيل لها على امتداد العالم والزمن، من إنسان فلسطين كائنًا كونيًا يختزل الضمير الإنساني برمّته على الرغم من المحاولات الإسرائيلية لاختزال الفلسطيني نفسه، والنظر إليه كما لو أنه ليس بشرًا يستحق الوقوف أمام ألمه، وأمام مشهديّات الموت غير العادية في غزة، والشهداء الذين مرّت على أجسادهم الدبابات، والمقابر التي مرّت عليها جرافات أمحت معالمها، في فعل همجي ومريض متفرّد في وحشيّته بين شعوب الأرض. ألم يقل البروفيسور اليهودي يشعياهو ليبوڨيتش Leibowitz (1903 - 1994)   الذي واجه بن غوريون وأمثاله "إنّ النشوة القوميّة المتباهية بعد انتصار حرب الأيام الستة ستتحوّل إلى قومية دينية متطرفة تليها مرحلة البهيميّة المتوحّشة ومن بعدها ستكون مرحلة نهاية الصهيونية". إذًا هي نهاية حتمية للصهيونية قادمة، بعد تطور مستويات التعذيب الإسرائيلي لشعب بأكمله. فلم يعانِ شعب على الأرض ما عاناه ويعانيه الفلسطينيون الموجودون في فلسطين، الموت بالتقسيط منذ 76 عامًا، ضحايا كل يوم، هدم بيوت كل يوم، عمليات أسر حتى لأطفال كل يوم، ومحاولات حثيثة لردم المشاعر والصور وكل ما يوثّق الألم الفلسطيني. من هنا تأتي أهمية جمع حكايات أبناء غزة الشهداء، والمفقودين، والأحياء الذي لا يحييون، وأولئك الذين ينتظرون أملًا بالحياة، تؤخّرهم آلة الهجرة الكندية لدوافع أمنية "Security Check"، هي حال كثيرين من أبناء غزة، استشهدوا بعد أن حصلوا على الموافقة المبدئية ولكنها لا تزال "مبدئية"، منذ أكثر من 6 أشهر. حاولت صدى أونلاين في هذا الملف تسليط الضوء على حكايا عدد من الشهداء والمفقودين في غزة على لسان إخوتهم الكنديين المقيمين في كندا، وكذلك تسليط الضوء على وضع طلبات اللجوء إلى كندا والتي لا تزال تحت بند "التشييك الأمني!!". 

 

 الشهيد أحمد أبو هجرس

 

إسلام حمدان هجرس

أخي أحمد أبو هجرس هو أصغر شاب من إخواني، استشهد بتاريخ 22-2-2024، من مواليد 1993، هو متزوج وكان عنده ابنتان وولد مريض وضعه صعب. كان من المفترض أن يأتي إلى كندا من خلال البرنامج الذي وضعته وزارة الهجرة الكندية. بعد استشهاده بأربعة أشهر، ولدت زوجته ابنة ثالثة "نور".

نحن من مدينة بني سهيلا، وقد نزحنا إلى رفح بسبب الاجتياح الإسرائيلي للمدينة. خلال الاجتياح فقدنا أخوين لنا، آدم وممدوح، لا نعرف عنهما شيئًا. فتشنا تحت ركام المباني، تواصلنا مع الصليب الأحمر، الصليب الأحمر تواصل مع الجيش الإسرائيلي ولكن لا فائدة. وضعنا أكثر من محامي من الداخل الفلسطيني لمتابعة قضية الاختفاء، ولكن الجيش الإسرائيلي يرفض تمامًا إعطاء أي معلومة. أخي آدم كان موظفًا في بنك فلسطين. آخر مرة تواصلنا معه كان يوم 28-11-2023. عندي 6 أخوة، أخي أحمد استشهد، والمفقودان هما آدم، وهو متزوج وله طفلان، وممدوح، وهو غير متزوج.

أخي الشهيد أحمد كان اجتماعيًا وينشئ صداقات ويخدم العالم. في اليوم الذي استشهد فيه، كان لديه أصحاب محاصرون في جامعة الأقصى، عرف أنهم بلا طعام وماء، فكلّم أخي الكبير نادر الذي يسكن في رفح ويشتغل في منظمة إنسانية، وقال له إنه بحاجة لإيصال طعام وماء لمحاصرين ومعهم أطفال. في الساعة 6 ونصف صباحًا، استلم الأغراض من المركز الذي يعمل فيه أخي الكبير وذهب على دراجة نارية. خلال الطريق تعب، فمرّ على أختي إسراء التي كانت نازحة في إحدى الخيم. قال لها إنه سيترك دراجته النارية عندها وأخذ منها نقودًا قليلة ليذهب بسيارة أجرة، وذهب، ولكن بعد عشر دقائق عاد وقال لها إنه يريد أن يتوضأ قبل الذهاب لأن الطريق التي سيسلكها ليس فيها ماء للوضوء. توضأ وذهب وأوصل الأغراض، ومرّ على عمتي ليطمئن عليها لأن زوجها مفقود أيضًا. سلّمها بعض الأغراض وأوصل عددًا من الأمانات.

خلال عودته، وكانت الجيش الإسرائيلي قد قسّم المناطق شارع "أ"، شارع "ب"، وهكذا، على أن يمنع المرور من شارع "أ". يومها سيارة الأجرة توقفت عند "أ" دون أن يعرفوا أنهم يدخلون هذا الشارع، مباشرة قصف الاحتلال على السيارة، فخرج أخي من السيارة ولكن تم تقنصيه مباشرة بـ 6 رصاصات، في وجهه وكتفه. هذا الاستشهاد حدث الساعة 11:35 ظهرًا. أحد الشباب وكان معه تمكّن من النجاة وركض صوب رفح إلى حيث يقيم إخوتي، كانت رفح لا تزال تُعتبر آمنة.

المفقود آدم ابو هجرس

يومها لم يكن مسموحًا الدخول للمنطقة التي استشهد فيها، اعتبروها منطقة مغلقة وكانوا يعملون على جرفها، وتحويلها إلى حفرة، لم نستطع أن نتركه هناك. أبلغت أختي إسراء إخوتنا أنه مرّ لخيمتها وترك دراجته النارية وأغراضه، وكان يرتدي جاكيت زرقاء. كان وقتها فضل شتاء وبرد. ذهب بعض الشباب وكانت الدبابة تبعد 3 أمتار عن مكان الاستشهاد. أخي صوّر فيديو للجثث من بعيد، ليتم تحديد مكانه قبل الاقتراب من المكان، كانت الأرض مليئة بالجثث، بقوا من الساعة 11 ونصف حتى الخامسة عصرًا وهم يحاولون التسلّل للمكان. كانت الدبابة بعيدة بضعة أمتار عنه، وإن تحركت الدبابة كانت ستمرّ فوق جسده وتبيده بالتأكيد. زحف أخي محمود خطوة خطوة، من مكان آخر. في جرأة كبيرة، تمكّن من سحب الجثة. أخي محمود لم يعد هو نفسه، تغيّر حتى شكله، وأصبح أحدًا آخر؛ رؤية جثث الشهداء المسحولة وبينها جثة أخي أحمد كانت قاسية عليه. وأنا لم أتمكن من مشاهدة صورته التي أرسلوها لي بعد أن أحضروه، هو الصغير بيننا، يساعد ويخدم بشكل كبير، أي أحد محتاج مساعدة كان يسأل عنه ويأتي له بالطعام والماء. في رفح كان متطوعًا لتوصيل الأمانات والمواد الغذائية. كان أحمد مسؤولًا عن 500 أسرة يوصل لها طرودًا ومساعدات.

أقول الحمدلله أننا استطعنا أن نقيم له عزاء، هذا الأمر يخفّف عن أمي وأبي وعنا. الشهداء الذين كانوا هناك نهشتهم الكلاب والقطط. رغم القصف، أقمنا له جنازة، ودفنّاه، والناس الذين حضروا العزاء لا نعرفهم، يقولون "افتقدناه، جئنا نطمئن عليه"، وكثير منهم أعطوا أهلي مالًا، قالوا إن أحمد كان قد أعطاهم إياه. كان أخي شغالًا على الخير، واستشهد متوضئًا. أعزّي نفسي أني في نفس اليوم عند الفجر كلّمته، في وقت الفجر يكون الإنترنت جيدًا في غزة ثم ينقطع خلال النهار. ودّعته، وقال لي إن شاء لله نجد آدم وممدوح. كانت معنوياته عالية. عند استشهاده كلّمته أيضًا، أختي اتصلت بي وقالت لي ودّعيه لأن الشهيد يسمع الذين يودّعوه، كلّمته وانقطع الاتصال. كان الأمر صعبًا جدًا عليّ. جئت إلى كندا منذ وقت ليس ببعيد، وليس عندي أقارب هنا ولا معارف، وجدت الأمر صعبًا جدًا، ومن كثرة البكاء ساعتها غفوت فرأيته في المنام يقول لي ودّعيني، رأيته كما لو كان حيًا بجسده كاملًا.

أخواي آدم وممدوح مفقودان أيضًا، جاء أمر إخلاء البيوت في بني سهيلة، فأخذ أخي آدم زوجته وأولاده لمنزل أهله في رفح وعاد، لكنه اختفى مع أولاد عمي، وجدنا أحد أبناء عمي شهيدًا. دخل جنود الاحتلال البيوت، بيتًا بيتًا، وهذا شيء لم يكن متوقعًا، منطقة بني سهيلة في المنطقة الشرقية من خان يونس منطقة هادئة وجميلة. يومها كلّمته في نفس اليوم، قال لي بأن الجنود حاصروا المكان ولا يستطيع الخروج، كان في البيت ودخلوا عليه، واختفى الاتصال معه. من فترة، تحرّر أحد الأسرى من السجن وأخبر أن هناك شاب كان في السجن من عائلة هجرس، ويقول بأنه يعرفه لأنه كان موظفًا في بنك فلسطين وكثيرون يعرفونه. يقول رأيته من بعيد وكان مقيّدًا كالجميع، ولم يستطع التحدّث معه. أكّد لنا أنه آدم وهو ما خفّف عن أمي وعنا.

أمي وأبي تهجّرا 12 مرة فقط! هم يُعتبرون محظوظين أنهم تهجّروا 12 مرة. بدأت الحرب بشهر 10، أهلي نزحوا في شهر 12 من بني سهيلة لخان يونس للمواصي لرفح، ثم عادوا لبني سهيلة إلى البيت وجدوا البيت مدمّرًا، ثمة حائط لزاوية وحيدة بقيت، فوضعوا خيمة وبقوا فيها، ثم دخل اليهود أحرقوا الخيم، فذهب أهلي إلى المواصي وهكذا.

أنا عندي إقامة وليس جنسية كندية، وكنت قد أُبلغت أنه فقط من عنده جنسية يمكنه التقدّم بالطلب، بعد استشهاد أخي تواصلت مع عدد من الجهات، واستطعت أن أقدّم طلبًا لعشر أشخاص من عائلتي، من ضمنهم أمي وأبي، وزوجة أخي أحمد وبناته. الحرب غيّرت أهلي كثيرًا، أختي خولة الجميلة جدًا لمّا كانت تقرأ القرآن على جنازة أخي أحمد وتمسح على جسده كنت أشاهدها بالفيديو، سألت من هي هذه التي تمسح على كفن أخي فقالوا لي إنها أختك خولة، لم أصدّق، هذه ليست خولة، لونها أسود وضعيفة، كلهم تغيّروا.

الشهيد رزق محمد حجّاج مع والدته 

رواند حجّاج

أخي الشهيد رزق محمد حجّاج درس محاسبة، وكان يعمل في هيئة التأمين الصحي في وزارة الصحة، ليس فقط في عمله بالمحاسبة، بل كان مسؤولًا عن معاملات إخراج المرضى للعلاج في الخارج عندما يتطلّب الأمر ذلك. أبي توفي منذ 26 سنة، أخي رزق كان الكبير وهو الذي ربّانا، هو وأمي. بدأ العمل منذ صغره لإعالتنا، وكان همّه وهمّ أمي أن ندرس. أخي رزق كان أول شاب يدخل جامعة في عائلتنا الكبيرة، أقصد عائلة حجاج كلها. أخي أول دكتور بالعائلة، وأختي أول دكتورة، وأنا درست محاماة، لم يكن لدينا أي نشاط سياسي، كنا أيتامًا، عادة الأب هو الذي يشجّع على السياسة، ولكن وفاة أبي وانهماك أمي وأخي بتأمين لقمة عيشنا ودراستنا جعلتنا بعيدين عن الأحزاب السياسية، والانتماءات السياسية.

انتشر آخر فترة في غزة أن يذهب الأطفال للمساجد، والمساجد تعرفين توجّه الأطفال سياسيًا وتؤثّر عليهم كثيرًا، كان يقول أخي فليحفظ أولادنا القرآن في البيت، لا أريدهم أن يحفظوه في المسجد. كان يقول "نحن متديّنون، ويعجبني إيماننا"، فلم يكن يريد لأولاده التوجّه كثيرًا للمسجد من خوفه أن يكون لهم انتماءات سياسية أو دينية، تعرفين أنه في الأحياء الفقيرة الأولاد تتأثر سريعًا فلم يكن يقبل على الرغم من أنه لم يقطع فرضًا في مسجد، لكن فكرته هي أن هؤلاء الأطفال لا يميّزون الصح من الخطأ.

عند دوار الكويتي كانوا يوزّعون الأكل والمياه، يبعد الدوار عن بيتنا 15 دقيقة سيرًا على الأقدام. نحن نعيش في الشجاعية، ومن بداية الحرب لم يرض أخي أن ينزح. في أول اجتياح للشجاعية، اضطروا أن يخرجوا تحت الموت، صاروا ينزحون من مكان لمكان. في آخر يوم، كانت آخر أيام شهر رمضان، صلّى بالنازحين.  

أخي رزق كان يحلم بالقدوم إلى كندا، أكثر أحد من إخوتي كان يرغب بالقدوم إلى كندا، منذ 8 سنين لم أره. رزق لم يكن أخي فقط، كان أبي وهو الذي ربّاني، كان عمري 8 سنوات عندما توفيّ أبي، أنا لا أعرف أبي بقدر ما أعرف أخي رزق. هو الذي علّمني، هو الذي أخذني إلى الجامعة في أول يوم لي، هو الذي زوّجني، هو الذي أهداني أول تلفون جوّال. قبل أيام من استشهاده، قدّمت له طلبًا عبر "برنامج غزة" في وزارة الهجرة الكندية، وهو من أوائل الناس الذي حصلوا على الكود، اتصلت به يوم الجمعة وقلت له "أخوي وصلت ورقة التبصيم"، فرح كثيرًا، أرسلتها له، نحن ثلاثة أخوة في كندا، جمّعنا الأموال اللازمة لدخولهم لمصر عبر معبر رفح، المبلغ 5000$ للكبار و2500$ للصغار، أختي سحبت ادّخارها، وأخ زوجي أيضًا، وهكذا، نزل زوجي إلى مصرو دفع الأموال لشركة هلا المسؤولة عن عبورهم، دفعنا 80 ألف كندي، ليس فقط عنه، أيضًا عن أخي الثاني وأختي أيضًا، وعلى أساس يوم الاثنين يذهبون إلى المعبر.

في الليل، رأت زوجته في المنام أنهم في مكان فيه شجر ومياه، فقالت له "يبدو أننا سنذهب إلى كندا، رأيت في المنام أننا في مكان يشبه صور البارك التي ترسلها رواند"، فقال لها "إما كندا، أو جنات الخلد".

يوم السبت صلّى بالنازحين، ودعا "اللهم تقبلنا من الشهداء"، أخي هو الوحيد الذي يملك سيارة من الجيران. طلب جارنا منه أن يذهبا إلى دوّار الكويتي لإحضار أخيه الذي قنّصه جنود الاحتلال وقد استشهد، فلا يستطيع حمله ويحتاج سيارة. عندما ذهبا، مباشرة قنّصوه في رقبته، وقنّصوا جارنا أيضًا. عندي أخوان، رزق ورامز، ذهب رامز تحت الخطر في الساعة 12 ليلًا، رغم أن الجميع منعه، فلا نستطيع تحمّل خسارة أخي الثاني الوحيد، تمكّن من إحضار الجثمان. والحمدلله أقمنا له جنازة. ولكن لم  يستطيعوا أن يكملوا "طقوس الحزن"، أخي عمره 45 وعنده خمس أولاد، فقلنا بما أن عائلته حصلوا على الكود أن يخرجوا إلى مصر مباشرة. استشهد يوم السبت، تم دفنه يوم الأحد، ويوم الاثنين ذهب الجميع إلى مصر. لكن أخي رامز كان قد تأخر الكود ليصله لأنه طبيب، فاضطر للبقاء في غزة، ولكن عندما وصل الكود كان المعبر قد تم إغلاقه نهائيًا. فلا يزال في غزة.

المشكلة في برنامج غزة في وزارة الهجرة الكندية، على الرغم من أن البرنامج اسمه "خاص" و"طوارئ"، ولكن لا نرى أي استعجال بالأمر. العائلة كلها الآن في مصر، 16 شخص، منهم 13 طفل يعيشون الآن في شقة من غرفتين في مصر. زوجة أخي مصدومة، ولم تستطع توديع أخي. تواصلتُ مع مكتب مارك ميلر، وزير الهجرة الكندي، قلت له أحضر لي على الأقل عائلة الشهيد، الأم لا تستطيع الاعتناء بأولادها، مصر لا تعطيهم إقامات، فلا نستطيع تسجيلهم في مدارس، وضعهم صعب هناك. أبسط شيء أن نرسل لهم مالًا من أجل معيشتهم، فلا نستطيع تحويله على اسم أحد منهم، يجب أن يكون مصريًا أو معه إقامة، نضطر تحويلهم لشخص مصري. تأخرت الطلبات كثيرًا، وجواب مكتب ميلر "Security Check ليست بيدنا". لا نعرف بيد من إذا لم تكن بيده.

الحمد لله نحن ثلاثة هنا، وتخيلتُ أن وجود ثلاثة قد يسرّع في عملية إحضار الباقيين. وعدت أخي رزق أنه سيأتي إلى كندا وحلفت له أنه في اليوم الأول التي يحصل فيها على الأوراق سيجدني بانتظاره في مصر. استشهد في اليوم التالي لحصوله على الكود. هذا صعب علينا كثيرًا، لكني وعدته أني سأهتم بأولاده، هو ربّاني وأنا سأربّي أولاده. ندعو الله كل يوم أن يتم فتح المعبر.

هذه الحرب دمّرت كل شيء جميل في غزة. بيتنا عمره 70 سنة دُمّر بالكامل، "راح".  بيتنا في أقدم حي في غزة، حي عريق، كل المساجد والآثار هناك، عندما نزح وعاد إلى البيت بعد خروج الاحتلال من الشجاعية، صار يبكي، قال لي "تخيلي يا اختي أنهم رموا صواريخ في المقبرة. لا أثر لقبر أبي ولا لأي قبر. لو لم نكن نعرف أنه في هذا المكان يوجد مقبرة، لن نظن أبدًا بذلك".  في هذه المقبرة دُفن جنود إنكليز منذ أكثر من مئة عام. جدودي وجدود جدودي دُفنوا فيها. أخبرني أنهم لم يجدوا حتى حجارة القبور. يريد اليهود أن تكون الأرض مثل صحراء، ممسوحة بالكامل.

القصص لا تنتهي، وأخي ليس الوحيد ولكن كل شخص عند أهله غالٍ. يطيّب أصدقائي خاطري، ولكن لا يمكن أن أمنع نفسي من البكاء، كان بودّي أن أراه قبل استشهاده. الحديث عنه صعب.

أختي وحيدة هناك، كانت صدمتها كبيرة جدًا، أخي كان اجتماعيًا وإنسانيًا، يخدم كل الناس، "ابعتلوا لأبو محمد بيساعدكن.." هكذا كان جميع الناس يتكلمون عنه.. أنا مهتمة أن يأتي الأولاد كثيرًا، عنده محمد عمره 16 سنة وأخوه 15 سنة وأخته 14 سنة. مصر ليست أمان، قلت لمارك أريد على الأقل أن أحضر أولاده.

أشتغل مع المؤسسات التي تُحضر مهاجرين إلى كندا، وأعرف ماذا يعني أن يأتي أحد ليس معه المستندات اللازمة للبقاء هنا، ونحن نسعى لتأمين كل المستندات لهم. الحقيقة أنهم لم يتعاطوا مع السوريين والأوكرانيين كما يتعاملون مع أهل غزة. أحد السوريين أخبرني أنه خلال شهر تمكن من القدوم من تركيا إلى كندا. قال إنه بعد أسبوعين من المقابلة أعطوه الفيزا. يعني، عندما تريد وزارة الهجرة التعجيل بالطلبات سوف يعجّلون بها، ولكن عندما لا يريدون ذلك فمهما حاولنا بلا فائدة.           

الشهيد الدكتور عمر عادل أبو عاصي

حفصة أبو عاصي

أخي الشهيد البطل الحافظ لكتاب الله الدكتور عمر عادل أبو عاصي عمره ثلاثة وعشرون عامًا كان يدرس في كلية الطب البيطري بجامعة الأزهر غزة سنة خامسة. كان من المفترض أن يتخرّج في السنة الحالية ولكن شاءت الأقدار ليصبح قمرًا في جنة الخلد.

بيت أهلي في منطقة حي الرمال، وكانوا في تلك الفترة نازحين، ولكن أخي أراد أن يذهب إلى بيتنا لإطعام حيوانات يربّيها، بط ودجاج وقطط، ذهب مع زوج أختي وجارنا، وحين كانوا يضعون الطعام للحيوانات أطلق قناصون عليهم النار، فاستشهدوا جميعًا.

أخي كان طبيبًا وغير متزوج، وكانت أمي تنتظر تخرّجه حتى تخطب له. طلب مني أن أساعده لتقديم طلب للهجرة إلى كندا أو فيزا عمل، حين ينهي سنته الأخيرة في الجامعة هذا العام أو ليكمل تخصّصه في كندا. قبل بـ20 ساعة من استشهاده، كلّمني وأرسل لي صورة عن جواز سفره وطلب مني أن أباشر بموضوع السفر، كان ذلك قبل أن يبدأ برنامج الهجرة الذي أقرّته الحكومة الكندية.. لكنه هاجر هجرة أبدية.

أخي كان خدومًا، كان يدفن الشهداء، ويطعم أي قطة أو كلب في ظل الأوضاع الصعبة. عند استشهاده كان يطعم قططًا بشارع بيتنا فأغارت عليه طائرات الاستطلاع الإسرائيلية بصاروخ، فسقط هو ومن معه من أصحابه على باب البيت. كان استشهاده بتاريخ 4-12-2023.

 

نعمة الزعيم (أم باسل)

استشهد ابن أختي أنور سعد الزعيم في القصف الإسرائيلي الذي استهدف المصلّين بمدرسة التابعين في منطقة حي الدرج وسط مدينة غزة، في 10 آب/ أغسطس الماضي، يومها استشهد 100 شخص عند صلاة الفجر. زوجته هي ابنة أخي، وكانت في المدرسة، الحمدلله هي بخير، هو قام ليصلي في المكان المخصّص للصلاة، فارتكب الاحتلال تلك المجزرة. أخواتي في الشجاعية وفي حي الزيتون، وينزحون من مكان لمكان. والتواصل معهم صعب. وكانت ابنة أختي ريم الزعيم، وهي هنا في مونتريال، قدّمت طلبًا لوالديها، وقد حصلوا على الكود قبل أكثر من خمسة أشهر، ودخلوا مصر عبر معبر رفح، وتم أخذ البصمة، وأخذوا كل المعلومات منها، ولكن حتى الآن لا يوجد ردّ.

 المفقود إسماعيل كمال سلمان حلّس

أم سامر حلّس

ابني إسماعيل كمال سلمان حلّس مفقود منذ  16-12-2023. منزلنا في الشجاعية، في أكثر المناطق سخونة، أول ما دخل اليهود عليها مسحوا الأراضي والبيوت مسحًا في الخط الشرقي منها، بيوت أخواتي وبيوت أبناء أخواتي وأقربائنا كلها تم تسويتها بالأرض. رفض ابني بداية أن يخرج من البيت، نحن في وسط الشجاعية، عند ميدان الشجاعية. زاد القصف جنوبًا وشمالًا وصار يُقصف البيت من كل مكان. إسماعيل منذ 14 سنة لم يأتِ إلى غزة. درس في مصر، ولما تخرّج سافر إلى ماليزيا ثم تركيا، وعشت معه في تركيا 6 سنوات قبل أن نعود لغزة. كنا قد دخلنا من غزة، أنا عبر معبر إيرز بيت ياحون وهو جاء عبر مصر عن طريق معبر رفح، فخرجت من غزة عبر إيرز قبل يومين من الحرب إلى تركيا كي أرى ابنتي التي سافرت من كندا إلى تركيا، وذلك بعد إلحاح منها أن ألاقيها في تركيا. إسماعيل قال إنه سيبقى في غزة. في أحد الأيام، زاد القصف فخرج صوب مستشفى الشفاء كما خرج الجميع من البيوت، فكلّمه أخي الذي كان مقيمًا عند أختي في النصيرات. ولاقاه وأخذه إلى دار أخته، حيث كان يقيم 120 شخصًا من أقاربنا. إسماعيل يحب الهدوء فرجع عن طريق الرشيد إلى الشجاعية. بقي هناك 3 أيام معزول عنا. حتى قُصف منزلنا وهو مقيم فيه، استطاع أن يخرج ويذهب إلى النصيرات عند أخته، حتى 16-12-2023، كان يذهب إلى البحر كل يوم. في ذلك اليوم خرج ولم يعد. لا يوجد أي خبر عنه. ابنتي التي كان يقيم عندها زوجها أردني واستطاع أن يؤمّن لها خروجًا عبر معبر رفح. خرجت ابنتي من دارها ووصلت إلى العريش في 15-12-2023، عندما وجد إسماعيل أن أخته تركت البيت، خرج من البيت ولم نعرف له أثرًا بعد ذلك. لا أحد من الأصحاب والأصدقاء رآه، الكثير من الناس ساعدونا وفتشوا عنه، ولم نجده. المشكلة أن اليهود كانوا في منطقة بيتنا، في الشجاعية، وكان يقنّصون كل من يمرّ، حتى العصفور. ولكن لم يقل أحد إنه رآه. سألنا الصليب الأحمر ونادي الأسرى الفلسطيني والهيئة الديمقراطية لحقوق الإنسان، وأنا بسبب عملي كرئيس مجلس إدارة في جمعية زاخر تواصلت مع كل هذه المؤسسات وغيرها، الكل يجيب أن هناك تعتيم والجيش الإسرائيلي لا يعطي معلومات. لا نعرف إذا كان شهيدًا أو أسيرًا. أحتاج أي خبر عنه.       

 

موسى أبو دقة 

أنا هنا في كندا منذ عامين ونصف كلاجئ، وكان ضمن الملف ابنتي ريما لأنها أقل من 18 عامًا، حصلنا على الإقامة الدائمة مطلع هذا العام. فخرجَت إلى مصر عبر S.O.S وبقيت هناك أربعة أشهر حتى حصلت على تأشيرة الدخول إلى كندا. المشكلة الكبيرة هي أن 20 فردًا من أبنائي وبناتي وأحفادي لاي زالزن في غزة، عندي ولدان وابنتان متزوجون، وهم في حالة نزوح دائمة وفي حالة رعب وهلع مسيطرة عليهم بسب الحرب. رعب من أصوات الصواريخ. نزحوا إلى خان يونس وبعدها إلى رفح، ثم العودة إلى خان يونس ثم دير البلح ثم خان يونس، وهكذا، من نزوح لنزوح. دُمّرت 4 بيوت من بيوتنا. بيتي تهدّم بالكامل، هو أربع طوابق، ابني لديه فيلا وسيارة دُمّرا بالكامل. وبيت ابني الثاني أيضًا بيته 190 مترًا، وبيوت بناتي المتزوجات. يعيشون حالة هلع وعدم القدرة على توفير المأكل والملبس والأدوية، خاصة مع قلة وجود المياه ومواد التنظيف، وبالتالي قلة التنظيف ما يؤدي لانتشار الأمراض الجلدية خاصة.

قدّمت طلبًا لهم جميعًا من شهر كانون الثاني/ يناير 2024، ولكن للأسف الحكومة الكندية لا تتعاطف مع أهل غزة. توفي 45 شخصًا من أقاربي، من عائلتي القريبة، وغيرهم لديهم إصابات بليغة. يعيش الجميع حالة من الحزن والقهر، وشعور بغياب الضمير الإنساني. نحن في كندا نتغنّى بالديمقراطية والحرية في كندا، وهذا ما دفعني إلى اللجوء إلى كندا، الشعور بمساحة من الحرية وإنسانية الضمير الكندي في مساعدة أي إنسان بغضّ النظر عن دينه وعن جنسيته. لكن افتقرنا إلى هذا الموقف الإنساني من كندا، بمعناه الحقيقي، لأن أولادنا لا يزالون يعيشون في حالة من الرعب والقلق عليه، من الممكن أن نفقدهم أو نفقد أي أحد منهم في أي لحظة، فلا يوجد أي مكان آمن في غزة. فضلًا عن أن موقف كندا لم يكن إيجابيًا بخصوص الأزمة الإنسانية في غزة.

عائلتي لم تحصل على الكود بعد، أرسلت رسالة لوزارة الهجرة قلت لهم بأن يعاملوا أهل غزة كمعاملة الأوكرانيين الذي مرّوا بأقل بكثير مما يمرّ على غزة، ورحّبوا بهم بشكل سريع للغاية. أهلنا في غزة يُقتلون في كل لحظة، لماذا لا تسرّع الحكومة الكندية بالإجراءات، حتى نشعر بأنها تقف مع أقاربنا وذوينا.  

المحزن أنه مرسّخ في وعي الإنسان العربي والإسلامي أن قضيتنا تخص الفلسطينيين وحدهم، وأن العرب لا دخل لهم، وأن الفلسطينيين وحدهم المسؤولون عن الدفاع عن أنفسهم. يقول القرآن الكريم "سبحان الذي أسرى بعبده ليلًا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى"، إذًا المسجد الأقصى ليس ملكًا للفلسطينيين، هو ملك للأمة العربية والإسلامية، وملزمة هذه الأمة بالقضية الفلسطينية. يعني يمكن للفلسطنيين أن يعيشوا على طريقة سينغافورا، العرب اعتقدوا أنها قضية فلسطينية ولا يجوز لأحد أن يتدخل فيها.

الموضوع ليس موضوع حماس، في العام 1967 لم يكن هناك حماس، وفي العام 1948 لم يكن هناك حماس، واتُهم الفلسطينيون أنهم باعوا أرضهم، ولكن ظهر الآن من يبيع فلسطين والأقصى.   

خولة أبو دقة

استشهد ابن أختي لؤي أبو لحية وعمره عشرين عامًا في 7 آذار/ مارس 2024. استشهد حين كان يمشي على الطريق، قُصف أحد المنازل فأصابته شظية. كان ابن أختي نازحًا، وليس له أي اتجاه سياسي، ولم يحمل سلاحًا في حياته. هو ابن أختي البكر، خطبته كانت في شهر أيلول/ سبتمبر 2023 قبل شهر من الحرب، وكان متخرّجًا حديثًا من الجامعة. 

كنتُ قد قدّمت طلبًا له للهجرة إلى كندا من ضمن البرنامج الذي فتحته وزارة الهجرة الكندية، لكنه حصل على الكود بعد استشهاده.

قدّمتُ طلبًا لأخواتي الثلاثة ولعائلاتهن، حصلوا جميعهم على الكود منذ 6 أشهر، وذهبوا إلى مصر عبر معبر رفح حيث تم أخذ البصمات في السفارة الكندية، على أساس أن الأمر لن يطول ولكن حتى الآن لا يوجد أي تطور في الملف. ملف إحدى أخواتي كامل، لكن المشكلة أن زوجها لا يزال في غزة. الأصح لم يكن المال الكافي للعبور إلى مصر. دفعنا للخروج من غزة إلى مصر 64 ألف دولار أميركي من أجل أخواتي وأولادهن، ولم يكن معنا ما يكفي لإخراج الرجال، على الرغم من أن الرجال أيضًا أخذوا الكود. الآن المعبر مغلق تمامًا، لا إمكانية لأي أحد ليخرج من غزة. كان ينقصنا 10 آلاف دولار لإخراج كل رجل من أصهرتي.

في شهر نيسان/ أبريل 2024 استطعنا تأمين 64 ألف دولار واستطعنا إخراج أخواتي الثلاثة، فلم نعد نتحمل موتًا آخر في العائلة. خرجت العائلات الثلاثة إلى مصر. ولكن كان هناك صعوبة في تأمين مبلغ أكبر، لذلك بقي الرجال في غزة.

هنا سنتكفّل بأخواتي وأولادهن عندما يصلون إلى كندا، وقد قدّمنا كل الأوراق اللازمة التي تؤكد كفالتهم خلال بقائهم هنا لحين وقوفهم على أقدامهم، ولكنهم لم يحصلوا على الفيزا بعد. مرّ خمسة أشهر وهم في مصر، وليس عندهم إقامة هناك، وجودهم غير قانوني في مصر، ولا عمل لديهم، ودخلنا في الموسم الدراسي، الأولاد بلا مدرسة للسنة الثانية.. اعتقدنا أنه بمجرد أن يأخذوا البصمة في السفارة فإن الأمر لن يطول، ولكن لا جديد منذ أكثر من خمسة أشهر. وقد تواصلنا مع موظف اسمه مايك من دائرة الهجرة، النواب عن منطقتنا لم يفعلوا شيئًا، يقولون فقط إن الملفات يتم متابعتها من قبل لجان الأمن.

لينا صبح

جئت في شهر آب/ أغسطس 2023 في زيارة لأخواتي، ولما حصلت الحرب قدّمت طلب لجوء، وحصلت على الموافقة المبدئية. لما صارت الحرب، قدّمت أختي طلبًا لأولادي، كونها معها الجنسية الكندية، وقد حصلوا على الكودات في شهر نيسان/ أبريل الفائت، كما تمكنوا عبر شركة هلا أن يعبروا إلى مصر عبر معبر رفح. كانت تأخذ 5000-6000$ أما الأولاد 2500-3000$، حسب إذا كان هناك وسيط يمكن أن يساعد في تقليل المبلغ.

منذ أربعة أشهر ينتظرون في مصر، ولم يحصلوا على الفيزا بعد. عندي 7 أولاد، بمساعدة أهل الخير تمكنت من إخراجهم هم وأبيهم إلى مصر. أولادي صغار، أكبرهم 20 عامًا. أحدهم عمره 12 سنة لديه حالة نفسية بسبب استشهاد ابن عمه وهو صديقه المقرّب، استشهد منذ شهر، ابني حزين جدًا، يجب أن أكون قربه وهو في هذه الحالة.

تواصلت مع النائب الفدرالي سمير الزبيري عن دائرة بيارفون-دولار ديزرمو، يقول إن الطلبات تخضع حاليًا لـ"التشييك الأمني" Security Check. أيضًا تواصلنا مع وزير الهجرة مايك ميلر، أجاب أيضًا "الطلبات في مرحلة التشييك الأمني ونحن لا نتدخل"، إذا هو لم يتدخّل، فمن الذي يجب أن يتدخل؟ أولادنا خارجون من حرب، لو أنهم مقاومين لما كانوا حصلوا على كود، ولما استطاعوا أصلًا الخروج عبر معبر رفح، فلماذا هذه المراقبة الأمنية والتشديد؟ 

 

 

حقوق الصورة : © UNRWA
 
الكلمات الدالة