د. علي ضاهر - مونتريال
للوهلة الأولى قد يبدو للقارئ ان هناك تناقضاً في عنوان المقالة. إذ كيف يمكن لحكومة كيبيك أن تكون "علمانية" و"كاثوليكية" في حين ان أساس العلمانية ومبدأها الأول قائم على فصل الحكومة ومؤسساتها وسلطاتها عن الدين ومؤسساته وسلطاته.
فحكومة كيبيك قد صدَّعَت آذاننا وآذان شعبها بقولها إنها العلمانية الوحيدة في أمريكا، لا بل في العالم، طبعاً بعد فرنسا أمها الحنون. وهي قد صرعتنا من كثرة ادعائها المدافعة عن العلمانية وارعبتنا من كثرة التلويح عاليا براية إخراج الدين من المجال العام وحشره في البيت، وملأت الدنيا بقولها انها تقاتل وحيدة بسيف فصل الدين عن الدولة فصلاً تاما. لكن ما يجري فعليا في كيبيك يدفع للتساؤل حول هذه الحقيقة. فهل ما يطبق على أرض الواقع هو فعلا علمانية صرفه، خالية من الدين، أم انها علمانية هجينة مخلوطة بعناصر دينية! لكن وقبل الكلام عن ذلك، أود ذكر الحادثة التالية. في الماضي، زارنا المفكر الاقتصادي سمير أمين، المشهور بنقده الجذري للمنظومة الرأسمالية والذي يعتبر مصيرها الى الزوال. بعد محاضرة شيقة ألقاها، تحلّقت حوله مجموعة من الأشخاص من أصول دينية وقومية واجتماعية متنوعة. فدار حديث تخللته النوادر والقصص. أَحبَّ سمير أمين أن يتعرف على ديانة كل واحد من الموجودين. وعندما وصل الدور الى أحدهم وسأله عن ديانته. أجاب: أنا غير مؤمن. فقال له سمير أمين: أنت غير مؤمن مسيحي او غير مؤمن مسلم او غير مؤمن يهودي؟
يعتبر سمير أمين ان كل انسان، بالوعي او باللاوعي، يتأثر خلال تكوينه بالعوامل الاجتماعية، كالأصدقاء والمدرسة والمجتمع وينطبع بالقضايا الثقافية والمعتقدات الدينية والعادات والتقاليد، وهي أمور تمثل النموذج الثقافي الذي يلعب دورًا في بناء شخصية الانسان وتوجيه سلوكه وتشكيل قيمه ونهج حياته. ومهما حاول إنكار ذلك فأفكاره واسمه وكلامه ومأكله ومشربه وتصرفاته متأثرة بذلك النموذج الثقافي. وهذا هو حال مقاطعة كيبيك الكندية فمهما حاولت رفع راية العلمانية عالياً ومهما سعت الى ركن الدين في الزاوية إلّا انها في النهاية تبقى مصبوغة بماضيها الكاثوليكي. وهذا ما يجعل مواقفها ملتبسة وقراراتها مشوشة، مما يسمح بإطلاق عليها صفة "العلمانية الكاثوليكية". فالثقافة والتقاليد والعادات الكاثوليكية ما زالت متغلغلة في مختلف مجالات الحياة العامة دون ان يدرك علمانيو كيبيك بذلك! اليكم بعض الأمثلة:
- تقوم الدنيا ولا تقعد ويعلو الصراخ والاحتجاجات عندما تعطي مدرسة ما عطلة يوم بمناسبة رمضان، ولكن تسكت الألسنة ولا توجه أبسط الأسئلة حول إجازات أعياد الميلاد او الفصح او غيرها من الأعياد الكاثوليكية!
- أرسلت الحكومة وزيرة الداخلية لتمثيلها في جنازة البابا فرنسيس. عند السؤال عن صوابية تكريم زعيم ديني، بالنسبة لحكومة تدافع بشراسة عن علمانية الدولة، تعلن الوزيرة ان غالبية سكان كيبيك كاثوليك! فكيف ترسل حكومة تدّعي العلمانية وزيرة لتمثيلها في مأتم بابا روما؟ ألا يجب على الحكومة أن تكون متسقة فيما تقوله لمواطنيها عن فصل الدين عن الدولة! تصور للحظة، اخي القارئ، لو ان حكومة كيبيك قامت بإرسال وفد رسمي الى الأزهر او الى النجف لتعزية في وفاة مراجع تلك المؤسسات! والله لهدم ريشار مارتينو وماتيو بوك-كوتيه وغيرهم من كتاب جورنال ديه مونتريال الدنيا فوق رؤوس المسلمين!
- في صباح اليوم التالي لعيد الفصح، كتب رئيس وزراء كيبيك: "لقد ولدت الكاثوليكية بيننا أيضًا ثقافة التضامن التي تميزنا". من خلال اختياره الإشادة بالكاثوليكية أولى ليغو اهتماماً خاصاً بعيد الفصح الكاثوليكي في وقت كان فيه مسلمو كيبيك يحتفلون بشهر رمضان. لم يتذكر ليغو لا الإسلام ولا رمضان ولا مبادئ الالفة والتضامن التي تميز هذا الشهر وما يخلقه من أحاسيس تدعو للتعاون والرحمة بين المواطنين! فرنسوا ليغو المواطن، يتمتع بحرية المعتقد تماماً مثل كل المواطنين. أما فرنسوا ليغو رئيس الوزراء فيتعين عليه أن يعرف قيم باقي أديان كيبيك، وأن يتحدث نيابة عنهم جميعا وان يذكر مساهماتهم في خلق الروابط بين المواطنين وليس عن الكاثوليكية فقط! القانون 21، الذي يُعدّ ليغو عرّابه، يعتمد على مبادئ واضحة: فصل الدولة عن الدين، الحياد الديني للدولة، المساواة بين جميع المواطنين، وحرية المعتقد، فاين تصرفات رئيس الوزراء، ممثل الدولة، من هذه المبادئ؟
- إسرائيل دولة دينية في جوهرها. هذا ليس اختراعي. هي تُعرّف عن نفسها بانها دولة يهودية. الكنيست الإسرائيلي اقر قانونا يحددها بأنها "الدولة القومية للشعب اليهودي" ويمنح اليهود حق الهجرة إليها بشكل حصري، ويشجعهم على الاستيطان ويعطيهم حصرياً حق تقرير المصير في إسرائيل. كل ذلك يعزز الشعور بالتهميش لدى المواطنين غير اليهود. وهذا القانون يتعارض كلياً مع الديمقراطية والمساواة ويتناقض بشكل جذري مع مبدأ العلمانية خصوصا، الغالي على قلب ليغو وحكومته. فهل من المنطق لحكومة تدافع بشراسة عن العلمانية أن تجهد لإقامة علاقات وثيقة مع دولة دينية لا تؤمن بالعلمانية لا بل ترذلها! دولة مدانة ومحكوم عليها من قبل الأمم المتحدة ومجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة والمحكمة الدولية والمحكمة الجنائية الدولية ومنظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش! لكن يبدو ان حكومة ليغو العلمانية، الديمقراطية، المتعلقة بحقوق الإنسان عمياء لا تنظر تصرفات إسرائيل التي تضر بالعلمانية وبكل مبادئها. بل بالعكس فحكومة ليغو تصر في هذه الاثناء على افتتاح مكتب دبلوماسي لكيبيك في تل أبيب! ألا تبعث هذه المواقف برسالة تناقض الى مواطني كيبيك حول تصرفات حكامهم! ألا تعطي هذه التصرفات الحق للمراقب الشك في التزام كيبيك بالعلمانية! تصوروا كيف تكون ردة الفعل لو ان كيبيك افتتحت مكتباً، في قم! لقامت الدنيا على الحكومة. اما بالنسبة لإسرائيل فقد خرست السن العلمانية!
- حتى وقت غير بعيد كانت مقاطعة كيبيك تنتخب كهنة لمجلس النواب. عام 1976 انتخبت ثلاثة كهنة للجمعية الوطنية! رينيه ليفيك بنفسه عيّن الأب اليسوعي جاك كوتور وزيراً للعمل والهجرة. سنة 2006 تمّ انتخاب الأب ريموند جرافيل، عن حزب الكتلة الكيبيكية في البرلمان. لم ينبس أحد ببنت شفة عن تأثير الدين الكاثوليكي على السياسة. في كيبيك الشوارع والمدن والساحات كلها تحمل أسماء مسيحية. الصلبان منتشرة في كل مكان فوق الأبنية والمدارس والساحات. الكنائس واجراسها تدق في ألف محلة ومحلة. فتصوروا لو ان إماما معمما انتخب في برلمان كيبيك! او ان البلدية قامت بإطلاق اسم الرسول الامين على ساحة او شارع او لو قام مؤذن بالدعوة للصلاة!
ان كيبيك تعوم في بحر كاثوليكي. هي لم تحمل سيف العلمانية لأن زعماءها ونخبها وقعوا صدفة في غرام العلمانية فأرادوا فجأة ركن الدين في زاوية من زوايا المنزل! بل ان سيف العلمانية لم يتم رفعه بهذه الحدية الّا لأن نخبها شعرت بتهديد للهوية عندما أصبح للأديان الأخرى، ولاسيما الاسلام، وجودا فعليا وملموسا في مختلف الميادين!
* الصورة من freepik لاغراض توضيحية فقط
14 مشاهدة
18 مايو, 2025
49 مشاهدة
18 مايو, 2025
210 مشاهدة
16 مايو, 2025