طلال طه ـ مونتريال
على مسافة أيام من أربعين الإمام الحسين (ع)، يحط بي التعب تحت العامود 1162، وطفل لا يتجاوز السابعة من عمره يتقدم لي بعبوة ماء بارد يخفف عني عطش المسافات الطويلة!..
على مسافة أيام من قبة مذهبة ومئذنة متطاولة تستقيم بأذان يتصل بالعام 61 للهجرة: ذكرت الصلاة جعلك الله من المصلين!..
على مسافة أميال في كوكبة من جماهير تلتف على سوادها ويلف الحزن ملامحها الرصينة، تسير بتؤدة وصبر وإصرار وهمة وعزيمة.. تريد أن تصل!
على مسافة عشق، في طريق تعفيك أن تحمل زادها، تغريك بطولها واستقامتها وناسها ودموعها: ليس لدى العاشق غير الدمع يسكبه تحت الأرقام التي تنتقص من مسافة حب وشوق!..
على الطريق بين النجف وكربلاء ثم وجع تراكم لقرون طويلة، وثم دم أهرق في محراب الكوفة وبطن الصحراء، وثم ثأر قديم يتوارثه "المشاية" في سباق الأزمان والمسافات والمشاعر والأحاسيس..
ثم ثمانيني يمر بجانبي سريعا يحث صبيا على اللحاق به، والصبي يتشاغل بحلوى موفورة توزع على يسار الطريق، وثم عجوز تحمل رايتها "يا حسين" تدفعها في وجهها لتقيها حر الشمس، وثم لغات أخرى ورايات متعددة الألوان والأحجام.. لكل رايته ولغته وسحنته وعشقه الذي جاء به الى الحسين (ع)!..
ثم ماء كثير على ضفاف الطريق، ثم ماء فرات عصي على حرملة أن يمنعه، ثم إسراف نتهم به الأطفال بماء زلال جاء به العباس من النهر.. وثم شاب ثلاثيني يقف في وسط الخيمة يتلقى السهام عن حسين توقف لصلاة!..
ثم خلق كثير، ثم جموع غفيرة، ثم مؤمنين ومؤمنات، وآخرون متعلمون على سبيل نجاة، ثم ربانيون ومشاريع شهداء، ثم دعاة ورواة وشعراء، أمهات وأبناء، جدات ورباة بيوت وناشطات، ثم فتية آمنوا وآخرون ما بدلوا ونفر جاؤوا على عجل من خلف متاريس الحياة، ثم شهداء قاموا من مطارحهم جاؤوا ليعيدوا كتابة روايتهم ثم يعودون!..
توابون، مستغفرون، أوابون، عوادون، سائحون، مشاؤون، حالمون، ثائرون.. بعضهم تسيره مشاغله البسيطة: يسأل رزقا وزوجة وذرية ودنيا متواضعة تعيده الى الضيعة وجيها وكريما!..
آخرون تغريهم القضايا الكبيرة، جاؤوا لتعجيل الفرج، يبحثون في لائحة أنصار المهدي (ع) عن أسمائهم، يطلبون الشهادة قبل النصر، تنتابهم لحظة ضعف يدعون بها لأنفسهم بالرزق والزوجة الصالحة.. ثم يستغفرون!..
ثم حكايا كثيرة، ثم عشرات ملايين الحكايا، لكل روايته وعشقه، فلكل زائر مع الحسين (ع) علقة وبث ونجوى ولائحة مطالب شخصية وعامة، يقدم أوراق اعتماده: يا ليتنا كنا معكم، ثم يعكف على امتحان العمر، أين الحسين (ع) في الصلاة والعلاقات والرزق الحلال والكلمة الطيبة والدفع بالتي هي احسن؟..
أين الحسين (ع) في: أنذر عشيرتك الأقربين، قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة، ليس من العصبية أن يحب المرء قومه، كونوا لنا دعاة صامتين، كونوا لنا دعاة بغير ألسنتكم، كونوا زينا لنا ولا تكونوا شينا علينا، أفضل الأعمال كلمة حق عند سلطان جائر، ثم كلمة حق عند سلطان جائر بحجم مدينة وبحجم قرية وبحجم زاروب ومؤسسة!..
.. في الطريق الى الحسين (ع) بشر وحكايات، دوافع وأسباب وحوافز، آمال وأحلام وجوائز، أطفال ونسوة وعجائز، لكل من هؤلاء قصته مع الحسين (ع)، قصص قصيرة للأطفال، وقصص مشوقة ومفجعة للنساء، وبطولات ومآثر للرجال، مسرح مفتوح للبشرية تستضاف على مائدته السخية في حضرة الكرم والوفاء والعطاء!..
أما أنا، المسكون بوجع الحسين (ع) مذ قتل في ساحة النبطية ذات صيف حار من ستينيات القرن الماضي، لا زلت أتسكع في زواريب الكوفة أملا بنجدة مسلم بن عقيل (رض)، أو اساعده للخروج الى الصحراء عل "حرا" يجعجع به ثم ينحاز إليه!..
لا زلت مصلوبا أمام جملة محكمة فرع موقف الإنسان في ضعفه: قلوبهم معك وسيوفهم عليك!..
أتترك ملك الري؟ والري منيتي.. أم أرجع مأثوما بقتل حسين؟..
اشهدوا لي عند الأمير أني أول من رمى!..
وغيرهم كثيرون، يزورون الحسين (ع) ويكتبون الرسائل، ويرسلون الدعوات، ويسلمون مسلم بن عقيل، وينقلبون على الحسين (ع)، ثم تقول لأحد جند ابن سعد: لما تبكي يا شيخ؟
يقول: أبكي لما أصابكم!..
تقول له: لما تسرقني إذن؟
يقول: إن لم أسرقك أنا فهناك آخر سيفعل!..
عشرون مليونا سيدي في كل عام، يقصدون حرمك ودمك، يقطعون البحار والانهار والجبال والأودية والصحراء والحدود والشبهات، يبيتون على حسك السعدان مسهدين، سياحتهم جهاد في سبيل الله، يعالجون أبدانهم وشهواتهم بالتعب، يعكفون على صلاة لهم، يودعونها كل ألوان العشق، ينوبون عن غيرهم بالزيارة، عن الأحياء والموتى والعجز والقصر والأجنة، يستغرقون في أحوالهم وطريقتهم، يستأنسون بغبار الطريق يلفح وجوههم، ويجدون السير الى مطارح دمك وأشلاءك، ثم يحطون بتعبهم وعرقهم عند مقامك الشريف، يشربون من كف العباس فراتا زلالا، يستمعون الى زينب (ع): كد كيدك واسع سعيك.. فما أيامك إلا عدد!..
ثم يعودون.. من تساوى يوماه فهو مغبون، ومن تساوت أيامه قبل الزيارة وبعدها فهو مغبون أيضا!..
ومن عاد من رحلته الى الحسين (ع) بموقف عز يكتبه في سيرته.. سمي حقا زائرا!..
222 مشاهدة
10 يناير, 2025
149 مشاهدة
10 يناير, 2025
262 مشاهدة
06 يناير, 2025