حسين حب الله ـ مونتريال
الجالية الكندية اللبنانية هي امتداد طبيعي لأصولها اللبنانية، وهي فرع طيّب لجذور تضرب في أعماق التاريخ والأصالة والإباء، بالرغم من وجود جماعات شوّهت هذا التاريخ وكانت علامة سلبية فيه لم تنجح - سيما في السنوات القريبة الماضية - في فرض نفسها وخيارها على اللبنانيين.
أمام الهجمة الاسرائيلية الوحشية الأخيرة وما فيها من مجازرَ تأتي ضمن سلسلة من المجازر ابتدأت منذ نشوء الكيان الاسرائيلي عامَ 1948، تقف مشدوهاً أمام مواقف الأصيلين وصلابتهم وعنفوانهم ورفضهم التسليم للاحتلال. فنسمع عن أمِّ مقاوم هناك سألته حين عاد إليها "أتعود اليّ سالماً وقد رحل الحبيب عنا"؟! وتنقل إحدى النساء في الجالية مضمون اتصالها بأم شهيد قضى منذ أيام لتعزّيها بفقد ولدها وهي أصلاً زوجة شهيد ووالدة مصابَيْن يُعالجان من إصابات طالتهما قبيل اندلاع العدوان الأخير، فتقول: "إتصلت بالوالدة لأعزّيها وأنا أفتش عن الكلمات لأواسيها وأخفف عنها. فإذا أنا أمام جبل من الصبر والعزيمة، حتى شعرت أنها هي التي تعطيني دروساً في الصبر على ما ينزل بالشعب اللبناني بفعل العدوان الصهيوني على المدنيين". وتضيف: "لم أجد الكلمات لأعبر عن مشاعري أمام تلك المواقف، فأعطيت الهاتف لزوجي ليكمل الحديث مع السيدة الكبيرة في مواقفها والبطلة في ثباتها".
مواقف مثل هذه هي التي تعبر عن ذاك الشعب اللبناني الذي يواسي الشعب الفلسطيني، الذي يسطّر كل يوم أبلغ الدروس في المقاومة المدنية التي تساهم - إلى جانب مواجهات الميدان - في التمسك بالأرض والهوية والتاريخ والتراث وحِفظه من القضاء عليه ومَحوِه.
الجالية اللبنانية في كندا هي امتداد لذاك الأصل النقي، وهي التي تحتفي كل يوم برحيل أحباء قضوا شهداء مظلومين على طريق الدفاع عن الوطن لصونه ونصرةً لشعب كان يستعد المحتلّ هناك لسحقه، قبل الانتقال إلى لبنان لِسحق الذين أخرجوه ذليلاً عامَ 2000 من لبنان وهزموه عامَ 2006 وأفشلوا مشروعاً لبناء شرق أوسط جديد. فلا يكاد يمر يوم من دون أن تسمع عن عوائل هنا فقدت أحباء لها هناك. فهذه فقدت أخاً، وذاك فقد والديه وعدداً من أفراد عائلته، وذاك فقد أخاً أو أختاً أو قريباً أو صديقاً عزيزاً. أولئك قضوا شهداء مضرجين بدمائهم، منهم من دُفِن، ومنهم من فُقد له أثر بفعل قوّة ووحشيّة ما يستخدمه الإحتلال الإسرائيلي من قذائف محرمة دولياً لا تميّز بين المدنيين والمقاتلين.
لا يكاد يمر أسبوع في جاليتنا من دون أن تُقام ذكرى لشهداء العدوان من أطفال ونساء وشيوخ ومقاومين ، فتعج المراكز بالمواسين والمباركين بالشهادة.
في تقديم واجب المواساة، سواء في المنزل أو المركز أو المسجد، ترى بأم العين مواقف تُرفع لأصحابها القبعة احتراماً وتنحني لها الهامات إجلالاً. ففي العادة تكون التعزية بالراحلين دموعاً حرّة وسواداً واحباطاً. إلا أن الصورة اليوم باتت تختلف، فقد حلّ التبريك محلّ العزاء، مترافقاً معه توزيع الحلوى بدلاً من الاقتصار على القهوة المرّة. إضافة الى إطعام الطعام عن أرواح الذين رحلوا والتبرع بالأموال عن أرواحهم للنازحين المدنيين. تسمع من هنا ما يعطيك العزم والقوة في ظل المحاولات الحثيثة من كل الأطراف الدولية والعربية والداخل لبثّ الإحباط واليأس بين أطراف البيئة التي تتعرض اليوم للإبادة على يد الاحتلال. تقف الغالبية بشكل صلب لتقول: "هذه الراية لن تسقط" و"يقيننا بالنصر لا يتزعزع رغم الآلام التي تحيط بنا". صدمني أحدهم هنا حين سألته عن أحوالِ أفراد عائلته في لبنان، فقال: "أصيب اثنان من اولادي، لكن لا همّ عندي أبداً.. فبعد أن رحل "الحبيب" كلّه يهون". أحدهم أكد في أثناء زيارته للتعزية برحيل ابن شقيقه: "لقد نال ما كان يسعى إليه: أن يرحل شهيداً دفاعاً عن بلده وأهله وأرضه.. نعم، نحن نفتقده ونشتاق إليه، ولكن انتقل الى جوار الله تقياً نقياً وهذا موضع للتبريك وليس للعزاء".
حين تفقد صديقاً عزيزاً تتصل بأخ له هنا أو أحد افراد عائلته للقيام "بواجب العزاء". تهرب الكلمات من أمامك حين تسمع الذين فقدوا أحباءهم وهم يخففون عنك بأنفسهم. أنت تبكي لـ "خسارة" صديق أكثر منهم، وتشعر بـ "الرهبة" مِنْ فقد الأحبّة أضعاف ما يشعرون به. فهُم يعبّرون عن اعتزازهم بالذين رحلوا مؤكدين على الثبات، مهما غلت التضحيات على طريق لن تكون نهايتها الا حفظ كرامة البلد وأهله رغماً عن كل المعتدين المتوحشين والمتآمرين الخبثاء والمثبّطين الجبناء.
كل ذلك و"نحن نعيش في بلد احتضننا ونعرف سياساته وسياسييه جيداً، وخبرنا مواقفهم ونعرف واجباتنا تجاه وطننا الجديد. فلا نقوم بما يخالف القوانين مهما حصل. ولا نفرّق بين حرصنا على وطننا الأصلي ووطننا الجديد"، كما يقولون للتأكيد على العمل ضمن القوانين والحقوق المنصوص عليها في الدستور وشرعة الحقوق الكندية. ليضيفوا: "لسنا إلّا أهل الحرص على أمن هذا البلد والمواطنين فيه، ونأمل أن يكفينا البعض من أبناء جلدتنا شر دسائسهم ووشايتهم، أي الذين خبرنا مواقفهم على مر السنين ... لنعيش بسلام آمنين".
كل التبريك للشهداء في عليائهم، ولأهلنا الصابرين كل التقدير، وللجالية المواسية والصابرة والداعمةِ لأهلها النازحين كل السلام والتحيّات.
*صورة المادة الخبرية من موقع freepik لأغراض توضيحية.
133 مشاهدة
13 نوفمبر, 2024
110 مشاهدة
10 نوفمبر, 2024
187 مشاهدة
09 نوفمبر, 2024