د. علي ضاهر
قدَّمت حكومة كيبيك مؤخرًا مشروع دستور خاص بها، مفصَّلًا بعناية على مقاس جماعة كيبيكية بعينها. دستور لا يزال في طور النقاش، لكنه يتسلَّل بهدوء كي لا يوقظ الأَقليات المسترخية فوق وسادة حقوقٍ يُراد سحبها بصمت من تحت الرؤوس. الغريب أن هذا المشروع، رغم خطورته، لم يُثر ضجيجًا واسعًا بين المهاجرين، خصوصًا العرب والمسلمين. ربما لأنهم باتوا معتادين على الصفعات العنصرية المغلّفة بأقنعة قانونية، أو لأنهم مشغولون بفكّ طلاسم رزمة قوانين تبدأ من منع صلوات في الشوارع ولا تنتهي عند أبواب رياض الأطفال!
فالقوانين "المعزِّزة للعلمانية"، سواء تلك المقرّة حديثًا أو التي تُطبخ على نار هادئة، تُلزم التلاميذ بالحضور مكشوفي الوجوه، وتمنع العاملين في المؤسسات التربوية، وصولًا إلى مربيات مراكز الرعاية، من ارتداء الرموز الدينية. ولا يقف الأمر هنا: فالحكومة تعتزم وقف دعم المدارس الدينية الخاصة، وتوسيع الحظر ليشمل موظفيها، ومنع غرف الصلاة في الجامعات، والحبل على الجرار. ولضمان تمرير هذه الإجراءات، تستند إلى "شروط استثنائية" تحصّنها من الطعون القضائية. وإذا أضفنا إلى هذه الرزمة مشاريع أخرى، مثل منع النقابات من استخدام أموالها للدفاع عن أعضائها، نصبح أمام وصفة لا تُبنى بها مجتمعات، بل تُفجَّرها. وصفة أعدّها طباخ يمينيّ، أكثرَ فيها من الملح العنصري وزاد من الفلفل المفسد لطعم العدالة وبهرها بالانعزالية!
مشروع الدستور المقترح لا يطمح إلى تكريس الحقوق بقدر ما يسعى إلى إعادة ترتيبها: من حماية الفرد إلى تمجيد الجماعة الغالبة، ومن رقابة القضاء إلى رقابة البرلمان على القضاء، ومن ميثاق الحقوق إلى ميثاق الولاء. إنه دستور يمنح البرلمان تفسير الحقوق كما يشتهي، لا كما يحتاج المواطن. لا أسبقيات، لا ضمانات، فقط "الانسجام"، أي الالتزام بقول: نعم سيدي! فالبرلمان يقرع طبول الحقوق، والمواطنون يرقصون عليها ولو كان صوتها نشازًا. وهكذا تصبح قوانين مثل قانون العلمانية، بكل ما فيها من اعتداء على المسلمين وخصوصياتهم، قوانين "طبيعية" لا اعتراض عليها.
أمّا الأخطر، فهو منح ما يُسمّى "الأمّة الكيبيكية" حقوقًا جماعية تعلو على باقي الحقوق، وإلزام كل من يفسّر القوانين أن يراعي هذا "الكيان المعنوي" الجديد أولًا. فلا يعود الانتماء يُقاس بالتعدد، بل بالتماثل. ولزيادة التسلّط، يمنح المشروع البرلمان سلطة إعلان قوانين "مُحصّنة" تحت شعار "السيادة البرلمانية"، بحيث لا يقوى أي قاضٍ على إبطالِها، حتى لو دهست حقوق الإنسان دهسًا. إنها نسخة كيبيكية من مبدأ "الملك لا يُسأل عمّا يفعل"، لتتحول إلى "البرلمان لا يُسأل عمّا يُشرّع".
ولمزيد من التضييق، يمنع المشروع استخدام الأموال العامة، حتى تلك التي جُمعت قانونيًا، للطعن في القوانين التي يعلن البرلمان أنها "ذات مصلحة وطنية". وهي عبارة غالبًا ما تعمل كمحدلة تمرّ فوق الحقوق الفردية! وبذلك يُجرَّد المجتمع المدني من أدواته: جمعيات، نقابات، منظمات حقوقية، والجميع مطلوب منه الصمت والانضباط. أما المسلمون، الذين يعتمدون على هذه المؤسسات لحماية بعض حقوقهم، فالمشهد واضح: على الأرض يا حكم، بلا غطاء ولا مظلة ولا حتى ورقة تين، او "بلا ولا شي" كما يقول زياد الرحباني.
في نهاية المطاف، مشروع الدستور هذا لا يكتب في لحظة صعود اليمين المشبع بالعنصرية واقصاء الاخر المختلف. لذا فهو يحاول تثبيت هذه اللحظة وتأبيدها كونها تسمح له بإعادة تشكيل المجتمع بما يخدم خوفه على مستقبله ومستقبل ما يمثله. مشروع يُقدَّم على أنه دستور تأسيسي، لكنه في جوهره يسعى إلى تأسيس سلطة لا تُعنى بالحقوق، بل بإعادة توزيعها تحت شعار: الأفضلية للأكثرية الخائفة! إنه دستور يُكتب بالخوف ويسعى إلى إعادة صياغة إنسان كيبيك وفق قالب الهوية المهيمنة، لا تنوّعه ولا حريته. لذا يمكن القول إن ما يُروَّج له كـ"دستور سيادة"، ليس سوى دستور إسكات.
* كل الشكر الى من ساعد في تفسير بنود هذا الدستور.
137 مشاهدة
01 ديسمبر, 2025
35 مشاهدة
01 ديسمبر, 2025
227 مشاهدة
29 نوفمبر, 2025