Sadaonline

الإعلامية والروائية نوال حلاوة: لا أستطيع أن أنفصل عن فلسطين في كل أعمالي ولبنان يقف وحيدًا مع غزة اليوم

استطاعت الإعلامية والروائية نوال حلاوة أن تقدّم سيرة شعب فلسطين قبل وأثناء وبعد النكبة أمام المجتمع الكندي

دارين حوماني ـ مونتريال

 

في كلمته عن رواية "الست زبيدة" يكتب المخرج السينمائي مارتن داكوورث "تكتب نوال حلاوة عن تفاصيل الحياة اليومية بكل المعرفة والشغف الذي يجعل القارئ منجذبًا بالكامل إلى القصة، ويتساءل كيف كان من الممكن فرض مثل هذه التجربة المؤلمة على شعب بريء، دون أي عواقب على الجناة. وربما تساعد قصة حلاوة ذات يوم في ترسيخ ‘حق العودة‘"، هكذا استطاعت الباحثة والإعلامية والروائية نوال حلاوة (1946) أن تقدّم سيرة شعب فلسطين قبل وأثناء وبعد النكبة أمام المجتمع الكندي، وتصل إلى قلوبهم، في فعل نضالي لا ينفصل عن رؤيتها من هدفها في الكتابة ومن هدفها في الصحافة ومن أي عمل ونشاط لها طوال حياتها، وهو تحريك الذاكرة الفلسطينية وجعلها مرئية أمام العالم، بكل الوسائل المتاحة.

كتبت نوال حلاوة الشعر لكنها وجدت أن القضية الفلسطينية بحاجة لصحافيين يكتبون حقيقة الإجرام الصهيوني، فكانت صحافية، ثم شعرت أن الفلسطينيين والعرب في كندا غير موجودين في الحياة السياسية والثقافية الكندية فأسّست "بيت تراث العرب"، ثم وجدت أن مخزونها من الهجرات المتتالية والأحزان المرتبطة بالوجع الفلسطيني كبير فبدأت بتوثيق ذلك الوجع منذ عتبة الوجع الأولى عام 1948، فكان لها كتابان في التغريبة الفلسطينية، رواية "الست زبيدة" التي حازت على الجائزة الأولى في مهرجان الفن لأوروبا الشرقية عام 2014، ورواية "العنكليزية"، ورواية "الشنط"في تغريبة الوجع الجسدي والنفسي في كندا.

ولنوال حلاوة كتاب "حوارات صحافية" جمعت فيه أبرز المقابلات التي أجرتها مع قيادات وسياسيين وأدباء خلال عملها الصحافي. ولها أيضًا كتاب "أسرى البقاع"، وهو مقابلات أجرتها حلاوة مع ستة أسرى إسرائيليين أسرتهم منظمة التحرير بعد اجتياح لبنان عام 1982، وتم تنفيذ عملية تبادل لهؤلاء الأسرى الستة بـ6000 أسير فلسطيني مع الكيان الصهيوني، وكانت هذه المقابلات قد نُشرت في صحيفة الوطن الكويتية على مدى يومين بالتزامن مع نشرهم في ثماني صحف عربية، بعد أن باعت صحيفة الوطن حقوق النشر لهذه الصحف.

كما كان لنوال حلاوة لقاءات خلال حياتها الصحافية مع أبرز الأسماء التي تركت أثرًا في الحياة السياسية والأدبية، منها إدوارد سعيد وناجي العلي ومحمود درويش ورفيق الحريري وصلاح خلف وأبو علي مصطفى وغيرهم. وقد عملت حلاوة مع صحف الوطن والقبس في الكويت ومع جريدة الدستور الأردنية ووكالة الأنباء بترا الأردنية، وغيرها. وكان لها تجربة خاصة في كندا وهي تأسيس وكالة الأنباء "نما" عام 1995 تعاونت فيها مع وكالات عربية وعالمية، وركّزت فيها على كل ما له علاقة بالقضية الفلسطينية، وتعاونت مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي واليونسكو وجامعة الدول العربية لتنفيذ عدد من المشاريع الثقافية والتراثية في كندا.

وحلاوة هي عضو في المعهد الدولي للصحفيين واتحاد الكتاب الفلسطينيين واتحاد الأدباء العرب، وشاركت في مؤتمرات عالمية عن حقوق الإنسان الفلسطيني وعن حقوق المرأة العربية وعن الهجرة العربية، كما ترأست اللجنة الإعلامية للاتحاد العام المرأة الفلسطينية- فرع الكويت، واللجنة الإعلامية العربية لدعم المرأة والطفل في فلسطين المحتلة، الكويت. وعملت كمدربة علاقات عامة بمركز المعلومات الفلسطيني لحقوق الإنسان في القدس منذ عام 1990-1992.

ونوال حلاوة لا تزال تناضل عبر "بيت تراث العرب"، فهي تجمع مبالغ مالية أسبوعيًا وترسلهم إلى غزة "المدينة الحرة الوحيدة رغم الحصار في فلسطين" كما تقول لنا في هذا الحوار.

عن النكبة الفلسطينية التي كانت وعائلتها جزءًا منها، وعن تجربتها الصحافية والأدبية، كان لنا معها هذا الحوار.

 

تقولين في رواية "الست زبيدة" أنك عدتِ إلى يافا بعد حصولك على الجواز الكندي،فوجدته خرابًا، وتقولين "أيقنت منذ الصغر أن نكبتنا كانت في خروجنا من ديارنا، وكنت دائما وما أزال أحيي من أعماق فؤادي من بقي صامدا على أرض فلسطين، خاصة بعد أن تعرفت على بعضهم عن قرب، وجدت فيهم من افتقدته خلال سنوات الشتات، لم يتخلوا عن فلسطينيتهم، وعاداتهم التي بقيت حية بتراثها الغني والأصيل".. حدثينا عن تهجيركم عام 1948 وعن تجربة العودة إلى ذلك البيت الأول والمكان الأول، إلى فلسطين. 

كانت أيام لا تُنسى عندما عدت إلى يافا، ورحت أبحث عن بيت أهلي. في تلك الفترة، كنتُ قد حصلت لتوّي على جواز السفر الكندي، وذهبت مع الصديق المخرج الكندي مارتن داكوورث من  National Board of Canada. ذهبت إلى مكان ولادتي، كان يريد أن يكتب فيلمًا عن يافا وتهجير الفلسطينيين منها. كان متأثرًا بأحاديثنا عما حصل في العام 1948. في المطار عند وصولنا، تعرّضنا أنا وزوجي للتحقيق والتفتيش لأكثر من 4 ساعات، اعتراني غضب كبير لكن بهجتي كانت كبيرة أنني موجودة في فلسطين وعلى أرض مطار اللّد؛ هكذا كنا نعرف اسمه لأنه يقع في مدينة اللّد، والآن يسمّونه مطار بن غوريون. وبحماس وفرحة كبيرين توجّهنا إلى يافا بمساعدة صديقة. وفي الطريق مررنا بتل أبيب، مدينة قبيحة جدًا، أخذ اليهود الأرض المحاذية للبحر التي كانت فيها سابقًا مساجد وبيوت جميلة، هدموها وبنوا مكانها ناطحات سحاب مقابل البحر من أجل السياحة. وتل أبيب هي مستعمرة تم إنشاؤها من أراضي ضواحي يافا ومنها قرية المسعودية، وهي "بيّارة" كانت لعائلة زوجي، و"بيّارة" تعني مزرعة برتقال. وكانت بداية نشأتها منذ أيام الانتداب البريطاني، حيث فتح البريطانيون لليهود ميناء في البحر ليستقدموهم، وكان الشعب الفلسطيني طيبًا جدًا، عند وصول اليهود حزنّا عليهم، كانوا يقولون أنهم مضطهدون في بلادهم. أخبرتني أمي أنهم كانوا فقراء ومنهم من جاءوا حفاة، حتى أن أمي استضافت عائلة يهودية لمدة ستة أشهر، وغيرها من الفلسطينيين استضافوا أيضًا يهودًا عند وصولهم. لم يكن ببال الفلسطينيين أن هؤلاء سيصبحون أعداء ذات يوم. بعد أشهر، جاءت منظمة يهودية وأمّنت لهم أمكنة للسكن. كما أخبرتني أمي أنها وأصدقاء من الحي لما ذهبوا لزيارة عدد من اليهود الذين استضافوهم بعد فترة رأوا مستوطنة كبيرة وجدرانًا عالية وحراسًا يحملون سلاحًا، ورفض الحراس استقبال أمي وأصدقاءها. وقتها بدأ ينتشر بين الفلسطينيين أن هؤلاء ليسوا فقراء وإنما هناك مخطّط آخر للتوطّن في فلسطين. في تلك الفترة، وكان ميناء يافا كبيرًا، دخل عمال الميناء في إضراب بسبب وصول أعداد هائلة من اليهود يوميًا، ولم يكن يعرف أحد لماذا هذا القدوم الكبير لليهود.

أهل فلسطين، ومنها أهل مدينة يافا، كانوا متمسّكين بأرضهم، لغاية بدء حصول المجازر بحق الفلسطينيين، وخصوصًا مجزرة دير ياسين التي أرهبوا الفلسطينيين بها، عن إعدام الرجال والنساء الحوامل، ووعدنا الجيش العربي أنه خلال أسبوعين سنحرّر الأرض.

كان عمري سنتين عند خروجنا من يافا عام 1948، كنا ستة أشخاص في السيارة، ولكن خلال الطريق كان هناك قنابل ورصاص، فتوقفنا بين الأشجار، وبعدها انتقلنا إلى باص أوصلنا إلى نابلس مع آخرين، وكانت الطريق مرعبة من شدة القصف، حتى أن الباص نفسه تم إطلاق الرصاص عليه. في نابلس، وصلنا إلى دار عائلة أبي، وهذه الدار لا تزال موجودة. وفي العام 1953 ذهبنا إلى الكويت.

في الكويت، عملتِ في الصحافة لسنوات، وأجريت مقابلات مع شخصيات بارزة، كيف تنظرين إلى تلك المرحلة، ومن هو الذي ترك أثرًا فيك؟

امتهنت الصحافة ثم درستها، شعرت أن قضيتنا بحاجة إلى صحافيين يكتبون حقيقة ما يحصل. كنتُ ناشطة وكان لديّ تحدّ مع الصحافة. أحببت الصحافة منذ صغري، منذ كنت في المدرسة. كان لدينا في المدرسة "جريدة الحائط"، كنت مسؤولة عنها، أكتبها وأرسمها. وكانت القراءة شغفي، عشتُ حياتي أقرأ، وكبرت وأنا أقرأ، وعشقتُ الكتابة. وما ساعدني في امتهان الصحافة هو جرأتي. أول من أجريت معه مقابلة هو صلاح خلف (أبو إياد)، وكانت مقابلة مهمة، انبهر بها كثيرين، فانطلقت في العمل الصحافي، وكانت فلسطين حاضرة في كل مقالاتي، حتى سُئلت، "كيف تُدخلين فلسطين في كل مقال". كل ما له علاقة بالقضية الفلسطينية كتبت عنه. بدأت في الوطن الكويتية، ثم القبس الكويتية، ثم القبس الدولية التي كانت تصدر في لندن. كانت جريدة الوطن قومية عروبية، وكانوا يقولون لي أنني ممثلة منظمة التحرير الفلسطينية فيها، ولكني لم أكن كذلك، لم أنتمِ لأي منظمة، انتميت إلى فلسطين فقط. في تلك الفترة، كانت قد بدأت البلبلة حول الانتخابات في المنظمة، والانفرادية في القرارات، وأنا كنت ضد الانفرادية. كانت أمور غريبة تحصل داخل المنظمة، وانشقاقات، ولكننا ككتّاب كنا ملتزمين بالقضية الفلسطينية.

كي أكمل الصحافة، نظّم اتحاد الكتّاب الصحافيين في بيروت، دورة مكثفة في بيروت لمدة سنة، كان الأساتذة فيها من ألمانيا الشرقية. وكان همّي لاحقًا دراسة الإعلام المضادّ وتأثيره علينا، وما هي الأساليب التي يستخدمونها للترويج لأفكارهم، فرأيت كل القذارات في الإعلام الغربي، قذارات غير موجودة في قيمنا العربية والإسلامية، ووجدت أنني لا أنتمي لهذا الإعلام.

الحقيقة، أجريت الكثير من اللقاءات مع شخصيات وقيادات سياسية بارزة. من الشخصيات التي أُعجبت بها إدوارد سعيد، التقيت به في مصر وكانوا ينظّمون له تكريمًا هناك. ومن الشخصيات السياسية التي قابلتها وأٌعجبت بها هو رفيق الحريري، جاء إلى مونتريال، وأجريت اللقاء معه هنا، شخصيته ثابتة وقوية. وكذلك أثّر بي صلاح أبو خلف وماجد أبو شرار وأبو علي مصطفى من الجبهة الشعبية، وقد استشهد لاحقًا.

أجريت مقابلات كثيرة، خصوصًا في الثمانينيات، وقد جمعت العديد من هذه المقابلات في كتاب "حوارات صحفية" وهو مجموعة لقاءات مع قيادات سياسية وثقافية وفنية فلسطينية وعربية وعالمية. كنتُ قد خسرت أرشيفي كله، ولكن عند نشر روايتي "الست زبيدة"، ذهبت إلى الكويت، إلى جريدة القبس، وحاولت أن أحصل من أرشيف الصحيفة على المقابلات التي كنتُ قد أجريتُها، تمكنت من الحصول على حوارات وصلت إلى 600 صفحة، لكنني لم أستطع نشرها كلها، فاخترت منها وتم نشرها في الكتاب، مع صور..         

منذ وصولك إلى كندا ناضلتِ لأجل فلسطين، وأسّست بيت تراث العرب، حدّثينا عن هذه التجربة، وعن هذه المؤسسة..

تجربة بيت تراث العرب من أهم التجارب في حياتي. عندما هاجرت إلى كندا، أحببت أن أعرف ماهية وضعنا كفلسطينيين وكعرب هنا. وجدت أننا رغم وجودنا في كندا إلا أننا غير موجودين فيها على أرض الواقع. . تبيّن أن الجالية العربية ليس لها وجود في الساحة السياسية والثقافية والتطوعية. ولما جئت، كانوا قد عيّنوني في الهيئة الإدارية للمؤسسة الكندية الفلسطينية. وكنتُ قد أجريت مقابلات مع وزراء التعليم والمرأة والهجرة والثقافة. أذكر أنني أجريت مقابلة مع وزيرة المرأة والمساواة في العام 1995، خلال فترة انعقاد مؤتمر المرأة الرابع في بكين، قالت لي إنها لم تلتقي بامرأة كندية عربية من قبل، وبعد أن أنهيت المقابلة قالت لي بأنها تذكرت بأن طباخها لبناني ويحضّر طبخات لبنانية لذيذة، هذا فقط ما تعرفه عنا كعرب! وزير الهجرة يومها قال لي خلال مقابلتي معه "إذا أردت أن تشتغلي في هذا البلد وتنجحي، عليك أن تؤسّسي لشيء يجمعكم كعرب"، شعرت أنها مهمة صعبة، قلت له "هل تعتقد أنه يمكننا كعرب أن نتوحّد؟"، قال "جربي، قد تتوحّدون في كندا، إن لم تتوحّدوا في العالم العربي".

كانت علاقاتي واسعة مع مسؤولين سياسيين ومع الناس، أنا مؤمنة أن الحب يعطي الخير، يشعر الناس بمحبتك، أحبّوا يأتيكم الحب. وبدأت أتواصل مع جمعيات هنا، ومع كثير من العرب، وأسّست "بيت تراث العرب".

حاولت أن أجمع الناس في كندا من خلال "بيت تراث العرب". وجدتُ نفسي وحدي في البداية، لكن عائلتي ساندتني وأسّسته، لأن البيت هو الذي يجمعنا، التراث هو الذي يوحّدنا، والعرب هم نحن، فأنا جمعت الكل في هذا البيت.

 

 

حدّثينا عن بعض نشاطات "بيت تراث العرب" أمس واليوم؟

انحصر كل تفكيري بداية أن أعرّف الكنديين بتراثنا. الحقيقة أنا متعلقة بالعناصر التراثية، حتى بالأغراض البسيطة، بالثياب، وبأدوات المطبخ. من نشاطات "بيت تراث العرب" وكان له صدى كبير، هو مهرجان التراث الشعبي العربي، جمع 19 بلد في ليلة واحدة. تواصلت مع الكثير من النساء المهتمّات بتراث بلادهن. من الخليج إلى المغرب العربي، كل ممثلة عن كل بلد عربي قدّمت أرقى ما فيها بلدها، كنّ نخبة،. وأنجزت المهرجان بمساعدة سفراء عدد من البلاد العربية في أوتاوا. همّي هو إظهار الأصالة العربية أمام الكنديين، ولكي يرى الكنديون التراث العربي تعاونت مع مسؤولة علاقات عامة كندية، ومع مديرة فنية كندية، كان ذلك مكلفًا لكن مهمًا.  

ومن ضمن أنشطة بيت تراث العرب، كان عندنا منهاج القيم الإنسانية، أخذت دورة أنا وزوجي مع اليونيسكو، وحضّرنا منهاجًا تعليميًا للأطفال في كندا وهو تعليم اللغة العربية من خلال القيم الإنسانية، الحب، التعاون، التسامح... كانت المدرسة ناجحة جدًا ولكن توقفت في العام 2012، عندما حصل معي عارض صحي كبير أقعدني بلا أي نشاط لمدة عامين، وكتبت عنه روايتي "الشنط".

 

 

حاليًا، ومنذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 نجمع المال ونرسلهم أسبوعيًا إلى غزة، المدينة الحرة الوحيدة رغم الحصار في فلسطين. فرحتنا كانت كبيرة في ذلك اليوم الذي تم كسر الحصار فيه يوم 7 أكتوبر، حتى أننا وزّعنا البقلاوة، قلنا "وأخيرًا انفتحت الطريق للتحرير"، كلنا كفلسطينيين، وبالذات الفلسطينيين الملتصقين بأرض فلسطين، نورث أولادنا أهمية العودة لفلسطين. أنا أورثت أولادي وأحفادي بأنني إذا لم أرجع لفلسطين، أنتم سوف ترجعون لها، وأوصيتهم بأن يخبروا أولادهم وأحفادهم بضرورة العودة والسعي لها؛ هذا له علاقة ببيئة البيت.

في أول تشرين الأول/ أكتوبر 2023، كان من المفترض أن أكون في غزة، واُلغيت الرحلة، بسبب مرض زوجي. طُلب مني أن أذهب إلى غزة للتعاون مع "جمعية الأمل التدريبية للمرأة والطفل"، وقد كان اهتمامي دائمًا أن يكون للمرأة دور في الحياة. أولئك الذين يعملون مع هذه الجمعية مجاهدون حقيقيون، إنهم الآن يؤمّنون الطعام للناس في ظل الحصار للشمال، بسبب محور نتساريم في غزة وقطع الإمدادات بين شمال وجنوب غزة، ولكننا نحاول قدر الإمكان مساعدتهم. جمعية الأمل لديها متطوعون كثيرون، نرسل أسبوعيًا مبالغ مالية لهم من خلال التبرّعات من كندا ومن فاعلات الخير الفلسطينيات في الكويت والسعودية والإمارات ومصر، ومن كل مكان لديّ علاقات معهم. هناك تاجر في مصر يساعدنا لإيصال الأموال إلى داخل غزة. وهناك الكثير من العائلات نرسل لهم مخصّصات شهرية تحت اسم "كفالات بيت تراث العرب".

من أجمل أنشطة "بيت تراث العرب" هو "المبادرة التعليمية"، حيث قمنا بدعم تأسيس مدرسة للأطفال في خيمة في غزة. ونقدّم القرطاسية والألواح، وقدّمنا خيمًا مخصّصة للتعليم لأكثر من مبادرة تعليمية.

من ضمن مشاريعنا، دعم 18 طالبًا وطالبة من غزة كانوا يدرسون الطب، وغطّينا دراستهم عبر متبرّعة فلسطينية من الكويت. 

ومن النشاطات أيضًا، دعم اعتصام الطلبة لوقف الحرب في غزة، في جامعة غويلف University of Guelph  في أونتاريو، كان اعتصامًا كبيرًا مثل اعتصام جامعة ماكغيل في مونتريال. أبنائي تولوا دعم الطلاب من خلال تقديم الطعام لهم يوميًا.

صدر لك في الشعر "كان يا ما كان" عام 1985 ثم انتظرت حتى العام 2015 لتصدري رواية "رواية الست زبيدة" لماذا توقفت عن الكتابة الأدبية كل هذه السنوات؟

"كان يا ما كان" هي عبارات بسيطة طفلة تحكي عن مشاعرها وحب وطنها، وتحكي عن أشياء عاشتها في فلسطين. لكن الصحافة أخذتني لاحقًا، وانشغلت كثيرًا في العمل النقابي ومشاريع ونشاطات توعوية عن فلسطين وتاريخها ومسابقات معرفية عن فلسطين، ومحاضرات باستمرار، كنت مسؤولة إعلامية عن كل نشاطات اتحاد الكتّاب في الكويت، والتراث والتعليم، المشروع التعليمي، ومشروع الأسرة الفلسطينية، ومشروع التطريز للمرأة الفلسطينية. انشغلت بالعمل النقابي الذي تطلّب الكثير من السفر. كتبت العديد من القصص القصيرة في الثمانينيات ولكنها لم تُنشر، بسبب انشغالاتي الكثيرة في ذلك الحين.  

 

 

روايتك "الست زبيدة"، "هي سيرة يافا ونابلس من خلال سيرتك ذاتية، وهي بهذا المعنى سيرة جمعية للفلسطينيين الذين هُجّروا من أرضهم، هل ترين أنه لا يزال لسيرة الوجع الفلسطيني تأثير فيحقبتنا الزمنية الأميركية حيث الفيتو يقتل كل الأصوات الحية وكل صوت شعري وفني؟

طبعًا، ما كان يزعجني في عملي النضالي طوال عمري أنه لا القيادات الفلسطينية ولا منظمة التحرير تهتم بالتوثيق. بداية هجرتي لكندا اشتغلت مع National board of Canada وكما أخبرتك سابقًا، اشتغلنا على فيلم عودتي إلى يافا، وهي نفسها رواية "الست زبيدة"، كتبت الرواية من امتحان الذاكرة. أجريت لي عدد من العمليات الجراحية في دماغي، بين العامين 2012 و2013، وفي العام 2014 قررت أن أمتحن ذاكرتي، لربما أثّرت هذه العمليات على ذاكرتي، ولكني اكتشفت أن ذاكرتي مهولة بالأحداث، ولا تزال كل الأحداث القديمة مطبوعة كأنها حصلت الآن، ليس فقط الأحداث بل حكايا أمي وأبي عن التهجير من يافا، وحكايا خالتي وعمتي، فالرواية مليئة بقصص الفلسطينيين كلهم، وعنهم وليس فقط قصتي أنا أو قصة أهلي وخروجهم من يافا. الكثير من الفلسطينيين الذين قرأوا هذه الرواية قالوا لي "إنك تتحدّثين عنا"، وبهذا المعنى فإن هذه الرواية هي رواية الفلسطينيين كلهم.

أنا متأكدة أننا نحن الفلسطينيين كلنا يد واحدة وقلب واحد، ولكن العديد من الحكام العرب هم خونة، ولكن حتى الذين ليسوا خونة ويقفون مع الشعب الفلسطيني ليس بإمكانهم إيقاف الحرب. لبنان يقف وحده اليوم، وما حدث منذ أيام عن تفجير الأجهزة شيء مرعب ويهزّ الإنسان. وقاحة وتطاول ولا أحد قادر على إيقاف وقاحة الإسرائيليين. كان إسماعيل بن هنية يطلب الشهادة منذ أن كان شابًا وكان تلميذ الشيخ أحمد ياسين، اعتبرنا بفقده أننا فقدنا الشيخ مرة أخرى.                 

 

ترجمت رواية "الست زبيدة" إلى الإنكليزية بعنوانA girl’s Paradise lost  ، حسب تجربتك، هل تلقى الأعمال الفلسطينية اهتمامًا أو صدى في الأوساط الثقافية الكندية؟ كيف يتم التعامل مع السردية الفلسطينية أدبيًا؟

أخذت من رواية "الست زبيدة" ما يتعلق بالنكبة والتهجير ومخيّمات اللاجئين وترجمتها. الحقيقة أن المجتمع الكندي تلقّى الرواية بشكل راقٍ جدًا، كأنها جاءت في الوقت المناسب. أول توقيع لي في تورونتو حيث يقيم ابني، كان ناجحًا جدًا، الحضور كان كبيرًا ورائعًا. وكتب عنها العديد من النقاد منهم مارتن داكوورث، وكاثي بيرغن ودون فاغنر، كتبوا كيف أنها توضح بشكل تام ما فقده الفلسطينيون بالنكبة وعن الفظائع التي ارتكبها الاحتلال الإسرائيلي. كما كتب قرّاء من أمازون ومكتبة إنديغو عدد من المراجعات الجميلة والمؤثرة عنها. وشاركتُ في حلقات نقاش وندوات عن الرواية في جامعة غويلف وفي عدد من الكليات والجمعيات.

هذه الرواية، أصبحت من Best seller، ومكتوب فيها أن ريعها يعود بالكامل لغزة، وهي موجودة في أكبر مكتبات كندا. وقد بذلت جهدًا لأجد لوحة تشبه المعاناة التي عاشها الفلسطينيون. أنا تعبت، والفلسطينيون تعبوا. نريد بلدنا أن يرجع لنا.

 

روايتك "العنكليزية"، تتحدثين فيها حالة الفلسطيني وإسهاماته في دول المنافي العربية والأجنبية، وبحث الفلسطيني عن رزقه وحماية أسرته بانتظار العودة للوطن السليب، تردّني أعمالك إلى ما كتبته الروائية الفرنسية الحائزة على نوبل آني إرنو في كتابها الأخير "السنوات" تقول: لا يمكن لشكل كتابها إلا أن ينبثق من غوص عميق في صور ذاكرتها"، ثم تقول: لا وجود لـ"أنا" في ما تعتبره نوعًا من السيرة الذاتية، بل هم ونحن، كأنها بدورها تحكي قصة الأيام الماضية"، وآني إرنو كتبت كل أعمالها انطلاقًا من أحداث شخصية، هل ترين أن أي عمل أدبي لا يمكن أن ينفصل عن الذات، وهل تقصّدتِ كتابة سيرتك وسيرة المكان معها بدل أن تذهبي لرواية عن أشخاص متخيلين؟      

الحقيقة أن عددًا من الأولاد الكويتيين، في الحيّ الذي كنا نقيم فيه في الكويت، كانوا يطلقون عليّ في طفولتي "العنكليزية" كلما كنتُ ذاهبة إلى المدرسة. كنت شقراء وعيناي زرقاوتان. كانوا أولادًا يلحقونني وينادون عليّ "العنكليزية"، وكان أخوالي يضحكون عليّ "نحن وجدناكِ تحت الشجرة"، وكنتُ طفلة طيبة فأصدّقهم، ولا أزال أصدّق كل الناس، عندي ثقة كبيرة بكل الناس حتى يثبت لي أحد ما أنه غير ذلك. العنكليزية أنا عشتها، وهي تجربة الخروج من فلسطين، وهي لا تتحدّث عن خروجنا إلى الكويت، بل عن خروج الكثير من الفلسطينيين إلى الكويت، والكثير منهم يخبرونني أيضًا انني أتحدّث عن سيرتهم وليس عن سيرتي. رواياتي تحكي عن التغريبة الفلسطينية بالكامل. وعندي رواية ثالثة اسمها جزيرة الراهبات، وهو اسم المكان الذي أقيم فيه هنا في مونتريال.

أنا لم أقصد سيرتي، أقصد سيرة شعب، سواء كانت التغريبة الأولى الخروج من يافا كما أسمّيها "الست زبيدة"، والتغريبة الثانية الخروج إلى الكويت "العنكليزية" والتغريبة الثالثة ستكون عن الهجرة إلى كندا، وهي ليست هجرتي وحدي، بل هجرة كل الفلسطينيين، وكل هجرتنا كعرب أيضًا.

أصدرت رواية "الشنط"، من ضمن التجارب التي مررتِ بها، ما الذي قصدتِه من كتابة هذا العمل؟

رواية "الشنط" هي كلمة The Shunt وهو أنبوب بلاستيكي رفيع يساعد على تصريف السائل الدماغي الشوكي الزائد من الدماغ. السائل الدماغي الشوكي هو الماء المالح الذي يحيط بالدماغ والحبل الشوكي ويحميهما. أحكي في هذه الرواية عن معاناتنا مع النظام الطبي في كندا، حيث تبيّن وجود ورم صغير في أذني، ولكن الطبيب يومها لم يكترث له إلى أن أصبح الورم كبيرًا، وأُجريت لي عدد من العمليات لاحقًا، وتم تركيب هذا الجهاز/ الأنبوب Shunt في رأسي ما تسبّب لي بمأساة من الوجع والألم والصداع، واستمر الأطباء والممرضون في القول لي في المستشفى إن هذا الشنط جيد. لكن ما حصل أنه امتص كل ما في دماغي من ماء، ودخلت المستشفى مجددًا بعد وصول حالتي إلى مرحلة خطرة من النزيف. تعبت في تلك الفترة كثيرًا كثيرًا. الخطأ كان وجود ورم صغير في أذني، طوله نصف سم، لكن الإهمال الطبي في كندا، والتأجيل، جعل الورم يكبر كثيرًا، حتى وصلت لمرحلة من عدم التحكم بجهازي العصبي، فكتبت لاحقًا معاناتي كتوثيق لتجربة صعبة جدًا، كي لا يحصل مع آخرين ما حصل معي، وخصوصًا مع المهاجرين العرب الذين لا يفهمون النظام الصحي كيف يسير هنا. كتبتها كي يعرفوا أنه لا يجب تسليم الجسم لطبيب واحد، بل يجب استشارة العديد من الأطباء. سألت الطبيب الذي رأى الورم في البداية ولم يكترث به، قلت له "كيف تترك الورم"، فأجابني "لأنه الورم كان حميدًا، ولم أعتقد أنه سيكبر أو سيتحوّل لشيء آخر". علميًا، اسألي أي طبيب أو مختص أو إنسان عادي في العالم، سيقول لك أن أي ورم سيكبر، إن كان حميدًا أم ليس حميدًا.

من يقرأ أعمالك يشعر بأن البُعد السينمائي موجود فيها، نتصوّر كل مكان وكل زاوية تتحدّثين عنها، ومؤخرًا شهدنا على أعمال ناجحة عالميًا "من المسافة صفر" وفرحة" وغيرها لمخرجين فلسطينيين، ولكن ألا ترين أنه لا يزال ثمة نقص في التنسيق بين كتّاب السيناريو والكتّاب الفلسطينيين، بمعنى أن ثمة أعمال أدبية مهمة إذا حوّلت إلى الشاشة ستصل إلى جمهور أوسع بكثير.. ماذا تقولين في ذلك؟  

هذا كان همّي في العمل النقابي كإعلامية، كنت دائمًا أتوجه إلى المسؤولين والقيادات وأسألهم لماذا التقصير في إنتاج أفلام روائية عن القضية الفلسطينية. نعم تمّ إنتاج أفلام ولكنها قليلة جدًا، لدينا روايات مهمة يجب أن يتم تحويلها إلى أفلام سينمائية. هناك تقصير، كانوا يفكرون بتحرير البلاد أكثر من التفكير بأدوار الثقافة. وقّعت عقدًا، عندما صدرت روايتي بالإنكليزية، مع مخرجة فلسطينية متزوجة من رجل سويدي وتعيش في السويد، كي تحوّلها لفيلم، ولكن لا يزال التمويل غير كافٍ. كما أن ثمة مشروع لإنتاجها كفيلم مع المخرج الفلسطيني الأميركي هاني أبو أسعد ولكن مؤجّل حاليًا.

تقول الكاتبة إديث وارتون: "هناك طريقتان لنشر الضوء: أن تكون الشمعة أو المرآة التي تعكسه"... هل على الأدب أن تكون له وظيفة سياسية وإنسانية؟

بالتأكيد، لا يمكن فصل الأدب عن الحياة السياسية والثقافية، كلها مشتركة مع بعضها، الأديب هو صوت الشعب، أليست الصحافة السلطة الرابعة. أرى أن الأديب الذي لا يكتب عن مشاعر شعبه ووطنه هذا لا يعدّ أديبًا حقيقيًا. لا يمكن للكاتب أن يكتب من شي غير محسوس، يجب أن يكتب الأديب من داخل قلبه، لا أستطيع أن أنفصل عن فلسطين في كل أعمالي، لذلك عملي الأدبي وحتى الصحافي مرتبط بوطني، حتى قصصي القصيرة كلها عن فلسطين. الإنسان الذي يريد أن يخدم مجتمعه، يمكن أن يخدمه من خلال الأدب والكتابة إذا كان قادرًا على ذلك.   

ما تبقّى لي أن أكتب سيرتي الحقيقة، لكن فلسطين اليوم أهم..  

ماذا تكتبين اليوم؟

حاليًا أجمع قصصًا من غزة، قصص ناس نزحوا، وناس استشهدوا على لسان إخوتهم، الكتاب سيكون حوالي 450 صفحة. تجربتي مهمة جدًا مع هذا العمل، تعرّفت على أحياء في غزة لم أكن أعرفها، أخبرني عنها ناس هناك، والكتاب سيحتوي على خريطة مدن غزة بالتفصيل، مع سيرة كل مدينة، ويتضمن أيضًا شهادات الأطفال في غزة عمّا مرّ معهم. كل طفل له صورة، أو لوحة عن القصة التي حكاها. الكتاب هو عمل توثيقي، وريعه سيكون لغزة.

 

*صور الأطفال من المبادرة التعليمية في غزة لبيت تراث العرب

 

الكلمات الدالة

معرض الصور