عباس نمر*
لم يكن مشهد فتح "شنطة هنية" في مسرحية "وين ما كنتِ تكوني" مجرد عرضٍ عابر، بل كان صدمةً وجدانيةً هزّت أعماقَنا. شعر كل مغترب في القاعة وكأنه يفتح خزانةَ طفولته المنسية، فخرجت رائحة الماضي منها كالعطر المعتق، حاملةً معها كل التفاصيل الصغيرة التي كنا نظنها ماتت. لعلّ فريق الإخراج في كشافة ومرشدات المسلم قصدَ أن يعيدنا إلى زمنٍ كنا نظنّ أننا نسيناه، لكنّ الذاكرةَ تعرف طريقَ العودة إليه دائمًا.
رأينا في تلك الشنطةِ المتواضعة عالماً كاملاً يتداعى أمام أعيننا. الراديو كاسيت القديم الذي كان يرافق سهرات العائلة ويصدح بصوت إذاعة القرآن الكريم (من القاهرة)، الثياب البالية التي ما زالت تحتفظ بطيّات الأيام الخوالي، ألبوم الصور الذي كنّا نتصفّحه كمن يُقلّب صفحات التاريخ الشخصي. كل صورة "مبيّضة" كانت بمثابة نافذة إلى زمن لم نعد نعرف كيف نعود إليه.
وسط هذه الذكريات، وقفت شجرة الزيتون شامخة كعادتها، رمزاً للصمود والأصالة. لكنّ غياب شجرة التين كان لافتاً. تلك الشجرة الكريمة التي علّمتنا معنى العطاء بلا حدود، كيف نسيناها؟ ألا تتذكرون "الديفور"، أول ثمار التين، وكيف كنّا نتسابق لاكتشافه على الأغصان؟ كانت فرحة القطاف تشبه العيد، نُنزل الثمار باحتفال، ونذوقها بنهم الطفل الذي يعرف قيمة النعمة الربانية.
الذكريات تتدفق كالنهر الجارف. أعشاش العصافير التي حاولنا تربية فراخها، لنكتشف أن أمهاتِها كنّ أعظم مما تخيلنا. جبل الزعتر حيث كنّا نجني الأعشاب كفرسان صغار. الساحة التي شهِدَت أحلامنا الأولى، والمدرسة التي شكلت وعينا قبل أن تأخذنا الحياة. ما زلت أتذكر أساتذتي يمشون "الكزدورة" قرب المسجد كل مساء، خطواتهم الواثقة تحمل حكمةً وحناناً. وأتذكر أبي وعمومتي - حَفِظَ الله الأحياءَ منهم ورحِمَ الأموات - كيف بنوا لنا في سهراتِهم ذكرياتٍ صمدت أمام الزمن. أين أصدقاءُ الطفولة الذين التحق جُلّهم بركب السعداء؟ وأين جدّي وجدّتي -رحمهما الله- وقبلاتُهم الدافئة التي كانت تذيبُ همومنا الصغيرة؟
"يا دهرُ، أفٍ لك من خليل!" لقد عبّر "علي ابن هنية" عن جزءٍ من وجعِنا، ولكنّ تلك الكلماتَ القليلة تعجزُ عن حملِ كلّ هذا الحنين. لقد اكتسب شعر إليا أبي ماضي في الغربة معاني جديدة: "وَطَنُ النُّجومِ أَنَا هُنَا.. حَدِّقْ أَتَذَكَّرُ مَنْ أَنَا؟". صرنا نخشى هذا السؤال كلما ابتعدنا أكثر. ذلك الطفل "الجذلان" الذي كان يمرح في الحقول كالنسيم، أين ذهب؟ لقد تركناه هناك، في جنة الطفولة التي وصفها المرحوم الدكتور الوائلي بحكمة: "الطفولة هي جنّة الدنيا". هي نفس الجنة التي يتحدث عنها ابن بلدتي الدكتور وهبي في روايته "الخروج من الجنة"، عندما اضطرته الظروف للنزوح عن "عيناثا".
حيرة علي في المطار لم تكن سوى مرآة لحيرتنا جميعاً. العودة إلى الأصول حيث الذكريات الدافئة؟ أم البقاء من أجل مستقبل الأبناء؟ حسناً فعل فريق الإخراج في كشافة ومرشدات المسلم بعدم الإجابة عن هذا السؤال في نهاية المسرحية. فأينما حط الإنسانٌ رحاله، سيكونُ دورُه في الحياة. ولكن الجوابَ، رغم قسوَتِه بالنسبة لي، يكمن في السؤالِ نفسُه: إن رحلنا جميعاً، فمن سيبني لأولادنا ذكرياتٍ كتلك التي ورثناها وبَناها لنا أهلُنا؟
ها هو مشروع المخيّم الكشفي الجديد ينتظرنا، ليس مجرّد أرضٍ ومباني، بل وعدٌ بمستقبلٍ نصنعُه لأبنائنا بأيدينا. هذا الحلم الكبير يحتاج إلى سواعد الجميع، وليس فقط إلى قلوبهم. فكما بنى آباؤنا ذكرياتِنا بجهودِهم وتضحياتِهم، علينا اليوم أن نبني لأبنائنا "جنة طفولتهم" بكل ما أوتينا من قوة.
فلنتذكر أن الذكريات الجميلة لا تولد من فراغ، بل تُصنع بإرادة وعطاء. إن مساهمتكم المالية اليوم ليست مجرد دعم لمشروع، بل استثمار في ذاكرة الأجيال القادمة. فلتكن أياديكم الكريمة جزءاً من هذه المسيرة، وليكتب الله هذا العمل في موازين حسناتِكم.
"وَ قُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّـهُ عَمَلَكُمْ وَ رَسُولُهُ وَ الْمُؤْمِنُونَ"
*القائد الكشفي ومفوّض الإعلام في كشافة ومرشدات المسلم
144 مشاهدة
19 مايو, 2025
266 مشاهدة
13 مايو, 2025
196 مشاهدة
05 مايو, 2025