Sadaonline

القدس أكثر من مدينة.. إنها رسالة!

لا حياد في القدس

طلال طه ـ مونتريال 

لمونتريال المدينة والناس مع القدس أكثر من حكاية، مذ حط ذاك الشيخ الكبير على أعتاب نهايات القرن العشرين بعباءته المنهكة بغبار التاريخ ولحيته البيضاء ونظرته الثاقبة، حط في مطار طهران قدميه وثورته.. مذ ذاك الوقت ومونتريال تعشق عروس المدائن، وتزفها في كل عام الى ناس المدينة، مرة بالنزول الى الشارع، ومرة بإنزالها في القلوب!..

دأب على ذلك أجيال من الناس والأفكار والأذواق والطرق، ومع تنوع الفصول، كانت القدس تأتينا مرة في حر الصيف فنتوزع في شوارع المدينة هنا، ونحاكي شوارع المدينة المغتصبة هناك، وحين تنهمر الأمطار والثلوج نلجأ الى منتدياتنا فننشد للقدس وأنبياءها وناسها وجوامعها وكنائسها وحاراتها وما تبقى من زيتون التاريخ وزيته!..

القدس اليوم تمثل قلب هذا الكوكب وعنوان أزليته وأبديته وإنسانيته السائرة نحو نهايات التاريخ في صراعها المستدام بين الخير والشر والكفر والإيمان والبشرية الممتحنة والحيوانية الشرسة!..

في القدس يختزل إنسان هذا الكوكب بقلبه، ولا حياد في القدس، فإما أن تصلب على خشبة المسيح (ع) أو تغدر به لدى القيصر، ويصبح لقاءك بأهلك بمثابة عشاءك الأخير!..

نتذكر المدينة بناسها أولا، هؤلاء المنذورين لرعاية الأرض مهدا لأنبياء جدد، أنبياء من الناس الذين لا يزالون يرابطون في أكناف بيت المقدس في أيديهم كتبهم ونبوءاتهم وأسلحتهم ومفاتيح بيتوهم.. وهم يقتربون رويدا رويدا، تلة تلة، زيتونة زيتونة.. رصاصة رصاصة!

ثم نذكر القدس بتاريخها، وحاراتها ودور العبادة والشهادة والولادة فيها ومن حولها، نتتبع خطوات الأنبياء، حيث حط المسيح (ع) قدميه ورجاءه، وحيث حط محمد (ص) قدميه ومعراجه، وبهذا المعنى فالقدس مدينة مفتوحة على السماء وتفتح أديرتها وجوامعها للصلاة والدعاء والرجاء..

وكما أخرج السيد الإمام (رض) القدس من بازار السياسة ولجان القدس المنبثقة عن المؤتمر الإسلامي وجامعة الدول العربية، لتتعهدها الشعوب ابتداءا بفلسطين وعبر الكوكب الى كل الناس الذين يحترفون العدالة والمبادئ والقيم.. كذلك مونتريال!

كذلك مونتريال.. كلما تعب جيل أو تراجع أو تقاعس تسلم الراية جيل جديد أكثر حماسا وإبداعا وأعاد رسم خريطة القدس بحبره وموسيقاه وريشته، أجيال من الشباب كما في فلسطين، راهن العدو على معركة الوقت، واعتبر أن الزمن يعمل لصالحه، فانفجرت قنبلة الوقت بين يديه، وخرج الشباب والشابات من كل فلسطين الى الساحات: أشرقت ثم عهد ثم رزان، على تنوع في الاسلوب واجتهاد في المنهج صوب حقيقة واحدة.. فلسطين من الماء الى الماء!..

تاريخ الجالية مع القدس يوما وشهرا وسنة قديم، وكذلك على تنوع في الأسلوب واجتهاد في المنهج صوب الوعي بقضايا الحق: نحن شيعة علي ومسلمو كندا.. لن نترك فلسطين!..

وكما برلين منذ بداية الخمسينات كانت تختصر الصراع بين الشرق والغرب في مدينة يفصله بين شرقها وغربها جدار، كذلك القدس منذ تكريس غلبة أمريكا ومحورها في الحرب الباردة، تحولت الى مدينة تختصر صراع الخير والشر، إذ حطت فيها كل عقائد وأديان التاريخ القديم، ولبست بعض يهوديته "مسيحانية" جديدة يختصرها ترامب بنزق متهافت يمثل أسوأ ما أنتجت البشرية في تاريخها من سلوكيات الرجل الأبيض الذي يصر على اغتصاب القدس كامرأة وليس كمدينة!..

ليس ترامب وحده، بل يخرج العفن والقيح والغائط من تحت "شماغات" عربان الخليج الذين استعادوا جاهليتهم بأريحية ورشاقة وزهو يمثل أسوأ ما في تاريخ العرب منذ أبي جهل وأبي لهب وابي سفيان!..

وحده اليمن يرجع الصدى، بفقرائه وبؤسه ودماره يخرج من تحت قذائف العرب لينصر قضية العرب الأولى، بإباء وشموخ وعزة ولغة عربية سليمة لا يشوبها عجمة أو شبهة اعراب في رفع الفاعل وكسر المغتصب والمعتدي!..

القدس – برلين العصر، بجدرانها التي ارتفعت في السنوات الأخيرة لتمنع عنها الشمس والهواء والناس والصلاة، تلتف على سجانيها، وتلتحم بالتراب والأشجار والحارات ولا تبيع بيوتها، وتحتفظ بوثائق ملكيتها منذ العهد العثماني والبريطاني.. وثائق لا تكذب، ولا تحتاج لحفريات "اركيولوجي" لتثبت أن يهوديا زرع زيتونة منذ ثلاثة آلاف عام جاء يبحث زيتها!..

القدس – برلين العصر الحديث، برلين القرن الحادي والعشرين تختصر حروب الماضي والحاضر، من الروايات الكاذبة والتاريخ المزور والنفط والغاز والمال والفيتو الأمريكي.. الى التواطؤ الغربي والعربي وتكسير العظام وكسر الإرادات، الى الحصار والتجويع والقهر – وظلم ذوي القربى أشد مضاضة من ضرب الحسام المهند – الى كل النار الذي يحيط بفلسطين.. كل ذلك لا يزيد القضية إلا ألقا ونضارة وحياة وشبابا، وكأن فلسطين في عيدها، والقدس عروس المدائن والقرى والزيتون.. هكذا تختصر القدس صراعات الكوكب الى أن يأذن الله في قضية عدل لمدينة الأنبياء والتاريخ والناس!..

.. ثم مونتريال، تتزين كل صيام، تستعد مع خيوط الصبح الأولى لملاقاة فلسطين، يدخل الشباب من أبواب القدس الكثيرة، يتوزعون في ساحاتها، يسلمون على شهدائها ومن بقي من ناسها، يطوفون حول قبة مسجدها بخشوع، يسعون بين المسجد والكنيسة سبعة أشواط، ينحرون خرافهم على نية القيامة، يرجمون شياطين الأنس والجن بأحجار فلسطين التي لا تخطئ، ثم يحرمون مرة أخرى، ينتظرون دمائهم على أرصفة الأحياء القديمة، عل قاتل يمر من هناك، أو قناص يترقب بقلق صدرا رحبا للشهادة!..

مرة أخرى.. مونتريال تتعرف على القدس من جديد، تراها من زاوية أخرى، على بعد في الشقة، وعجالة في السير، وانشغال بأمور الحياة، تحفظ كلمة السر وتوزعها على المأزومين بالعدالة والحرية وحقوق الإنسان.. لا بد من مقاطعة هذا الكيان، وكل ما ينتمي إليه، وكل من يسانده أو يدعمه أو يعاونه أو يدعو له وإليه..

في شهر الصوم وما بعده، أنا أتعبد بمقاطعة كل ما يرتبط بهذا الكيان، وأدعو أبناء جاليتنا الكريمة الى انتزاع معنى فقهي جديد نضيفه الى واجباتنا التعبدية في الصلاة والصيام والزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. والمقاطعة!

كل أشكال المقاطعة، هي عبادة فردية نربي عليها أنفسنا وأهلينا وأولادنا، خصوصا شبابنا وشاباتنا، ومن وصله صوتنا وكتابنا.. هذا القليل في الامتناع يشبه الصوم ولا يوازيه، لكنه يعودنا على امتحان الإرادة، ويفترق عنه بأن نومنا ليس عبادة .. فقضية فلسطين هي القضية الوحيدة التي: نومنا فيها ليس عبادة!..

 
*صورة المادة الخبرية من موقعfreepik لأغراض توضيحية.

 

 

 

 

 

الكلمات الدالة