د. علي ضاهر
في السعي للتفتيش عن اسم يليق بعامي 2024–2025، قمتُ باستطلاع بسيط، لا يعتمد على أي منهج علمي، ولا على منطق الدراسات الاجتماعية ولا على ما يحزنون، بل يرتكز على تجارب أصدقاء ومعارف لا يملكون سوى آراءهم وفهمهم للأوضاع. الهدف؟ البحث عن تسمية رنانة تليق بزمنٍ احترقت فيه الآمال وضَمُرت الأحلام وأبيد فيه البشر وتبعثر الحجر وأصبح كل من عليها فان ... ولم يبق الا وجه ربك وبيانات الشجب والإدانة والاستنكار التي تصدرت اجتماعات الرؤوساء العرب، واحتلت قصب السبق في لقاءاتهم، ولعلعت من على منابرهم وهي تُقرأ على الهواء مباشرةً، دون أن تُبلّل ريق رضيع او تداوي جرح طفل!
التسمية التي كنت اسعى لإطلاقها على العامين المذكورين، أردتها للمساعدة في توصيف الظلم الذي وقع - وما يزال - على غزة وأهلها، ولا سيما من ذَوي القُربى، وهو الظلم الذي يعتبره طرفة بن العبد، "أَشَدُّ مَضاضَةً عَلى المَرءِ مِن وَقْعِ الحُسامِ المُهَنَّدِ". فإطلاق التسميات، خَاصِّيَّةُ يتميز بها العرب، تساعدهم على ربط السنين بالأحداث. فهم، بعكس أهل الصين الذين يسمّون السنين بأسماء الحيوانات، كعام الفأر والثور او القرد والخنزير، الخ... وبعكس الفرنجة الذين يفضلون إطلاق إمّا الأرقام كأن يقال: "9/11" للإشارة إلى أحداث 11 سبتمبر 2001، او أسماء الحكام كتعريف السنين بالقول "في السنة الثانية من حكم الملك جورج" بدلا من "عام ثورة اليعاقبة" او "في السنة الرابعة من قنصلية لوسيوس أورليوس فيروس" بدلا من "سنة نهب مدينة المدائن" عاصمة الإمبراطورية الساسانية الفارسية، ومقرًا لملوك الأكاسرة التي ضمت أشهر المعالم مثل إيوان كسرى! فالعرب، ولتأثرهم تاريخياً بحضارة شفوية تعتمد كثيراً على الكلام المنطوق لنقل المعرفة والتاريخ، من أفلح الشعوب باعاً وأكثرها شطارة في إطلاق التوصيفات الرنانة على السنين التي تترك أثراً في الحياة، كالقول في وصف سنة 1948 بعام النكبة او 1967 بعام النكسة، هذا في العصر الحديث. اما في الماضي السحيق فقد كان عندهم عام 571 "عام الفيل" و"عام الجرب" الذي أطلق على سنة 1340هـ والتي تقابل تقريبًا عام 1922 م، وهي سنة ضرب فيها الجرب إبل الدرعية في السعودية. ومن التسميات التي تركت ألماً في الوجدان العربي "عام الرمادة" وهي سنة قحط شديد وجفاف في عهد الخليفة عمر بن الخطاب، سُمّيت بذلك لأن الأرض كانت كأنها رماد من شدّة الجفاف.
إذا وانطلاقا من هذه الخاصية العربية في إطلاق التسميات، فقد عقدنا النية خلال الاستطلاع أن نُبدع، ونُطلق أسماء تليق بعامي 2024–2025 وبالمَآسِي التي شهدناها خلالهما. ولتسهيل الأمر على الأصدقاء والمعارف، تم طرح عدة تسميات، منها: عام الدم الصامت، زمن الكفن المفتوح، عام الصراخ المكبوت، عام الزيتون الجريح، عام الكراسي الخرساء، عام القادة العميان، عام الصمت السلطوي، عام "يستنكرون بشدة ويدينون وينامون" عام "غزة تنزف دماء والزعماء ينزفون حبر الاستنكار".
وبعد فحص ودرس تقرر اعتماد وصف هذا الزمن بجملة تحتوي على الكلمتين: نستكر وندين. كونهما كانتا الأكثر استعمالا خلال السنتين موضوع البحث. فعبارة نستنكر وندين باتت ترد وتُقال وتُكتب في التصريحات والبيانات الرسمية العربية. فكلما ألقت الطائرات حممها على رؤوس اهل غزة نسمع عبارة فيها "نستنكر وندين" ولكنهم لا يقاطعون، لا يحركون ساكناً ولا يرشقون الجاني بوردة. وكلما علا صراخ الأطفال من تحت الركام نقرأ بيان فيه "نستنكر وندين" ولكنهم يرحبون بالوفود ويُصافحون الأيادي ولا يوجهون لهم لومة لائم. وكلما بكت أمهات غزة فلذات أكبادها يتناهى الى آذاننا كلمتا الاستنكار والإدانة، لكنهم يبقون السفارات مفتوحة ويجددون الاتفاقيات، ويعقدون الجديد منها. وكلما دفن شيخ عائلته بكاملها تحت القصف الإسرائيلي تتعالى عبارة فيها "نستنكر وندين"، لكنهم يستمرون في الوقت ذاته في إبرام الصداقات مع الجاني دون ان يقولوا له أُفٍّ وَلَا ينْهَروْهُ بل َيقُولون لَهُ قَوْلًا كَرِيمًا! لذا فحين يُسأل التاريخ: أين كنت يا سيسي ويا عبد الله يا ثاني ويا محمد يا سلمان ويا شرع ويا خامس ويا زايد ويا ناقص ويا نواف بينما غزة تُحرق وتُباد؟ سيكون حتماً الجواب: كنا نكتب بيانات، ونُنسق مواقف، ونكثر من المداولات ونعقد اجتماعات، حتى يتمكن في نهايتها ان يعتلي أبو الغيط، بطلعته الكالحة، منبراً لتلاوة بيانات غبية فيها كلمات استنكار وإدانة تساعد زمرة من الملوك والرؤوساء والزعماء العرب، الفاقدين للضمير، والمتوجين بغترات التفاهة والمُثقلة صدورهم بأوسمة السفاهة، النوم باطمئنان على ريش النعام، بينما غزة تنام تحت تلال من الركام!
124 مشاهدة
20 أغسطس, 2025
379 مشاهدة
18 أغسطس, 2025
2481 مشاهدة
14 أغسطس, 2025