دارين حوماني ـ مونتريال
يطوّر الفيلسوف ثيودور أدورنو في كتابة "نظرية جمالية" فكرة أن "الفن يشكّل وعد سعادة، لكن حق الفن في الوجود في المجتمع الحالي بات مهدّدًا"، وعلى هذا الأساس يشتغل الفنان التشكيلي هشام طقش الذي يرسم باحترافية ودقة، ولكي يبقى للفن قيمة في هذا العالم، فهو يرسم الانتفاضة، نضال المقاومين، الشهداء، التضحيات، الأماكن الأثرية، الحارات القديمة، والبيوت التراثية التي تنسحب رويدًا رويدًا من أماكننا ومدننا وقرانا؛ يهتم بأرشفة كل ما مضى وما قد يمضي، فالمجتمع ليس وحده الذي تغيّر حتى باتت الأشياء تفقد معناها، بل إن التهديد الإسرائيلي المزمن قد يطال كل إرث تاريخي وفني للبلاد. وها هو قد استهدف مرسم الفنان في مبنى يخصّه وكل فرد من عائلته. مبنى هو متحف فني قبل أن يكون مسكنًا. وخسر بذلك عشرات الأعمال الفنية منها ما عمره يقارب الخمسين عامًا.
درس هشام طقش هندسة الكومبيوتر في أميركا وفي العام 1990 انتقل إلى كندا ودرس الفن في جامعة تورونتو للفنون ما أهّله لإقامة المعارض في العديد من المدن الأميركية والأوروبية، منها مونتريال، أوتاوا، سانت لويس، فيلادلفيا، تورونتو، بطرسبرغ، كانساس سيتي، ديترويت، طهران، باريس، أنقرة، الأردن، تونس وبيروت.
بعد عودته إلى لبنان، أقام معرضين "حنين الأرض" (2008)، و"رسوماتي" (2013)، وشارك وساهم في تنظيم العديد من المعارض الجماعية والأنشطة الفنية الهادفة مثل "صدى الأيام" (2016)، "حنين عاملة" (2017)، "حرف من ذهب" (2018)، "زهر وألحان" (2019) التي شارك فيها عشرات الفنانين. كما نال هشام طقش جوائز عالمية عن عدد من لوحاته التي فقدها مع تدمير منزله ومرسمه.
عن خساراته جرّاء القصف الإسرائيلي وإنتاجاته كلها كان لنا معه هذا الحوار.
تعرّضت لخسارة كبيرة في لبنان جرّاء القصف الإسرائيلي الذي استهدف مرسمك، حدّثنا كيف حدث ذلك، وعن أعمالك الفنية التي فقدتها جرّاء ذلك؟
عشت عمري، وأنا أحلم ببناء بيت يكون لي مرسم فيه، وتنقلت بين عدد من الدول حتى العام 2011، أصبح وضعي ميسورًا، وكنت قد اشتريت قطعة أرض لأبني فيها بيتي وأحقق حلمي، كانت في حي الراهبات بالنبطية ولها إطلالة واسعة وجميلة، ولكن أولادي كانوا قد بدأوا يكبرون، فقررت أن أبني بناية تجمعنا جميعًا، وهذا ما حصل. أنا مهندس كومبيوتر وعندي إلمام بالهندسة المعمارية، وبحكم أسفاري وتجربتي كانت لديّ فكرة عن إنشاء مبنى مع دعامات تحمي من الزلازل ومن القصف، خصوصًا أن الجنوب اللبناني يتعرّض للقصف دائمًا. فتم إنشاء هذا المبنى مع كل مواصفات الأمان لجهة التدفئة وعزل الصوت والحماية من الزلازل. وفي الطابق قبل الأخير من المبنى كان بيتي ومرسمي والصالونات التي أعرض فيها اللوحات. مساحته 520 متر مربع. وقد اعتنيت بكل تفاصيله فنيًا أيضًا.
بعد قصف حي الراهبات بالنبطية مرارًا، كنت أتوقع قصف المبنى، وفي 31 تشرين الأول/ أكتوبر عرفت أن المبنى قُصف وتدمّر المرسم، ولما عرفت لم أفكر بخسارتي بتدمير المبنى، أول ما قلته: "راحوا اللوحات".
خسارتي للمبنى هي خسارة مؤلمة وقاسية ولكن المهم انه لم يصب أحد من ساكنيه بأذى.
كنتُ أرسم لنفسي، لا أعيش من الرسم، كان عندي عملي الخاص، فقد كنت استشاريًا بالكومبيوتر Computer consultant في أسفاري، ولما عدت إلى لبنان افتتحت مدرسة اسمها الأكاديمية اللبنانية المميزة The Canadian Lebanese Academy of excellence، وهي مخصّصة للطلاب القادمين من الخارج، ويحتاجون طريقة تعليم متّبعة في الغرب. ولكني لما انتقلت لبيتي الجديد، ومع وجود مساحة كبيرة تمكنت من رسم جداريات ولوحات كبيرة.
أرسم لنفسي عادة، وبنفس السياق إذا طلب مني أحد ما لوحة عن فكرة ما أرسمها له وأبيع هذه اللوحات التي تُطلب مني. لوحاتي تأخذ وقتًا، لكني لا أملّ منها. أرسم يوميًا، واليوم الذي لا أرسم فيه أعتبر أنه يوم ضاع من حياتي.
الخسارة الكبرى هي لوحاتي التي رسمتها على مدى 50 عامًا أقدمها لوحة الموناليزا الأولى والتي رسمتها سنة 1976، وهناك مجموعة من اللوحات القديمة والتي رسمتها في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي. هذه اللوحات لها قيمة معنوية وتاريخية غالية عندي.
اللوحات التي تدمرت أو احترقت عددها يفوق الثمانين لوحة وكلها عزيزة جدًا عليّ لما أمضيته من ساعات وأيام وشهور وجهد في رسمها. لوحاتي بصراحة وبصدق هي أهم إنجازات عمري ورؤيتها تختفي فجأة بفعلٍ إجرامي إسرائيلي ليس له مبرّر سوى الأذية والتجبّر.
نلتَ جوائز عديدة عن أعمالك الفنية، حدّثنا عن هذه الأعمال والجوائز؟
الحقيقة أن بعض اللوحات تتطلب شهورًا لإنجازها، منها لوحة "مكة المكرّمة"، كما كانت عام 1887. وعندما أرسم، أصوّر يوميًا مراحل لوحتي وما الذي أضيفه إليها يوميًا، وأعرضها على الفايسبوك، وذات يوم، اتصل بي شخص من أميركا وقال لي إنه عليّ أن أشارك بهذه اللوحة في مسابقة عالمية، اسمها American Art Awards، ويشارك فيها حوالي 3000 فنان، بدأت برسم اللوحة في تشرين الأول/ أكتوبر 2020 وأنهيتها في آذار/ مارس 2021، وفي أيلول من ذلك العام، وصلني إيمايل بفوزي بالجائزة الأولى للعام 2022. كانت سعادة كبيرة. صرت سنويًا أرسل عددًا من أعمالي للمشاركة في هذه المسابقة وفي مسابقات عالمية، ثم فزت لسنتين متتاليتين.
لجنة التحكيم في هذه المسابقة تتألف من 25 عضوًا، من أهم الفنانين والمسؤولين في المتاحف والغاليريات في أميركا، فالأمر ليس منوطًا بقرار شخص واحد، بل هناك 25 عضوًا يقررون بناء على عدد من الأمور، الألوان، القوة، التأليف، الموضوع.. في العام التالي رسمت لوحة "مسيرة الأربعين" وكنت قد ذهبت إلى العراق وتأثرت بمسيرة أربعين الإمام الحسين، ومن هذه الروحية رسمت لوحتي، وقد حصلت على جائزة عن هذه اللوحة من World Art Awards، وهناك لوحة "الموجة" فزت عنها في العام 2023 أيضًا. هذا العام أنجزت لوحة "القادة إلى الجنة" وفيها الإمامين الحسن (ع) والحسين (ع) يدخلان الجنة ويتبعهما جمهور من الناس، أخذت جائزة من بين اللوحات التي لها طابع ديني.
خسرت هذه الأعمال، "مكة المكرّمة"، و"الموجة"، و"مسيرة الأربعين" كانوا في المرسم عندما تم قصفه. لوحة "القادة إلى الجنة" كان الأساتذة في المدرسة طلبوها مني فأخذتها إلى هناك، ولا تزال.
في بيتي حوالي 80 لوحة، كلهم فقدتهم.
يروّج الإسرائيليون أنهم يرسلون تحذيرات لكل مكان يُقصف، هل حدث وأبلغوك؟ وهل هناك لوحات معينة كنت مرتبطًا بها بشكل خاص وشعرت بفقدانها بقوة، أو تمكنت من إنقاذها؟
الإسرائيليون لم يبلغونا، حتى أنهم لم يبلغوا بقصف مدينة النبطية ومحيطها إلا مرة واحدة. دائمًا يتم القصف دون إبلاغ.
هناك لوحات لا تقلّ أهمية عن اللوحات التي تقدّمت بها للمسابقات، كانت موجودة وخسرتها. عندي لوحة رسمتها عام 1976، عمرها 48 عامًا. كان عمري 16 عامًا وتحدّيت نفسي إن كنتُ أستطيع أن أرسم الموناليزا، ورسمتها. هذه اللوحة أيضًا من اللوحات التي خسرتها مع تدمير منزلي ومرسمي. عندي لوحات رائعة الحقيقة.
حتى يوم استشهاد القيادي فؤاد شكر كنت لا أزال في البيت. أخرجت عشرين لوحة من المنزل إلى المدرسة، ولكن ليسوا الأجمل، ثمة لوحات كبيرة كان من الصعب إخراجها. اللوحات الأكبر والتي لها رونق وتاريخ كانت لا تزال في مرسمي عند قصفه. لوحة المرحومة الوالدة من أقرب اللوحات لقلبي والتي أخذت جهدًا مني لإنجازها، لم أتمكن من إنقاذها. أيضًا لوحة "الموجة" كانت تزيّن غرفة الجلوس في بيتي، أحبها كثيرًا. لوحة "القدس" رسمتها عام 2002. عندي لوحات مهمة جدًا، للسيد حسن نصر الله، السيد محمد حسين فضل الله، والكثير من البورتريهات، رامبرانت، أم عزيز المرأة التي خسرت أولادها الأربعة، حسن كامل الصبّاح، عهد التميمي، والكثير..
بالنظر إلى لوحاتك واحترافيّتها، يتبادر إلينا أسلوب بعض الفنانين الجدد الذين يوفّرون على أنفسهم عناء رسم لوحة، فيستخدمون الديجيتال آرتأو الرسم بالكومبيوتر ويطبعون الرسمة، ثم يضيفون لمسات بالريشة، كنوع من الدمج بين التقليدي والرقمي، قد يعتبره البعض فنًا جديدًا يعكس التطور التكنولوجي، بينما يعتبره آخرون ابتعادًا عن المهارات التقليدية.هل تقوم بذلك؟ وماذا تقول عن هذه الطريقة؟
أنا أرسم بالزيت. لا أرسم أبدًا الرسم بالكومبيوتر. أرسم لوحتي بالرصاص أولًا، ثم أبدأ يوميًا بإضافة الألوان التي أريدها لها. هذا يحدث على مراحل، ولأيام وشهور أحيانًا. أرسم منذ أن كان عمري 13 سنة. بعد 51 عامًا لا يمكن العمل إلا بمهارة وبدقة. التمكّن من اللوحة مهم جدًا.
رسم الديجيتال هو عالم مهم، وهناك الكثير من الفنانين باتوا يتّبعونه. هم يكوّنون المنظر بالرسم في الكومبيوتر بأنفسهم. من يقدّر هذا الفن هم من الجيل الجديد. هناك NFT و NFC يبيعون اللوحات أونلاين، ومن يمتلك اللوحة، سيمتلكها بنسخة رقمية، وليس ملموسة. حتى هذه اللوحة الرقمية يمكن بيعها.
لا أعمل بهذه التقنية. القيمة الفنية للّوحة بالنسبة لي هي بوجودها. 99% من اللوحات التي تُرسم هي لوحات لها طابع تجاري. اللوحات التي لها طابع فني هي اللوحات التي يرسمها فنانون مثلي يرسمون لأنفسهم أولًا ولا يفكرون تجاريًا، ولكن الفنان لا يُلام على خياراته، هذا طبيعي ومن حق الفنان أن يركّز على الجانب التجاري لأنه يريد أن يعيش.
بعد خسارة أعمالك، هل لديك خطة لإعادة رسم أعمال مشابهة أم أنك تفكر في التوجه نحو موضوعات جديدة؟
يُقال أن كل شيء يتم تعويضه، ولكن الحقيقة هناك لوحات، من الصعب تعويضها. أفكر أنه عند إعادة بناء بيتي أن يكون الطابق الأخير متحفًا لأعمالي، لما تبقى من أعمالي حتى لو بقيت قطعًا صغيرة منها، ولما سأرسمه لاحقًا. بعض اللوحات يجب أن أعيد رسمها وإن كان ليس بنفس الصياغة، يجب أن أعيد رسم أمي وأبي، ولكن هل سأختار نفس الصور، الاحتمال الأكبر لا، لوحة "مكة المكرّمة" مثلًا والتي كانت أكثر لوحة أخذت مني أطول وقت طوال حياتي، لا أعتقد أنني سأعيد رسمها.
سألتِني منذ قليل عن الطباعة، قد أطبع مثلًا هذه اللوحات كونها موجودة عندي كصور، يمكن أن أطبعها وأقول بأنها طبعة محدودة، ونسخة عن الأصل. بالتأكيد، الطباعة لن تكون فيها نفس النقاوة، أو القيمة، بالتأكيد أعزّزها بقليل من التفاصيل، من أجل المشاهد، وتكون نسخة عن اللوحة الأصلية. عند العودة لمنزلي، إذا وجدت أنه تبقّى لو قطعة من لوحة في مرسمي ومعرضي، أو أقصوصة صغيرة، سأحتفظ بها، سأقوم بطباعة صورة اللوحة وألصق الأقصوصة عليها. هذه لا تزال أفكار في رأسي.
عادة، أنا لا أعيد رسم لوحة. أرسم كل لوحة مرة واحدة. إذا أٌعجب أحد ما بصورة عن لوحة لي، وتكون قد بيعت، أقول له إنها بيعت، ولا أرسم مثلها، ولكن قد أرسم "أختها"، قريبة منها وليس نفسها. هذا أسلوبي في الرسم، ومن الطبيعي أن لا أرسم لوحاتي مرتين، ولكن هناك موضوعات تتطلب إعادتها. مثل رسومات الخيل، أو الموج، أحب كثيرًا أن أرسمهم، ليس من الضروري أن تكون الرسومات الجديدة هي نفسها التي خسرتها، ولكن بنفس السياق.
قلتَ لي إنك بالأساس مهندس كومبيوتر، كيف جئت إلى الرسم، ووصلت لهذه الاحترافية العالية والدقة في رسم تفاصيل الوجوه والأمكنة والأشياء؟
منذ صغري وأنا أرسم، وبشكل جدّي. كنتُ لا أزال في السادسة عشر من عمري حين رسمت لوحات تشبه أعمال المخضرمين، ويوجد في النبطية رسامين مهمّين. نمطي وصبري ودقتي أعطوني القوة للرسم بجدّية. درست في أميركا هندسة الكومبيوتر واشتغلت باختصاصي. ولما جئت إلى كندا عام 1990، انتسبت في تورونتو إلى Ontario University of Art كان اسمها في ذلك الوقت Ontario College of Art، وصرت أدرس ليلًا ولأربع سنوات. هم لم يعلّموني شيئًا جديدًا، ولكنهم صقلوا موهبتي. تفتّحت عيوني على أشياء كثيرة لا أعرفها. مثلًا نظريات الرسم، فهم الألوان، التناقضات اللونية، كنت أشعر بهذه التقنيات وأرسم بها ولكن من دون أن يكون عندي قواعد معينة لها. كنت أرسم رسمًا صحيحًا ولكني لم أكن أعرف بمسألة التكوين في اللوحة، النقطة الذهبية مثلًا، كنت مثلًا أرسم ويتبيّن أن في لوحتي نقطتين ذهبيتين. هذه من الأمور التي لم أكن أعرفها، وانعكست معرفتي لها على لوحاتي بعد ذلك. ولكن، هل أثّرت دراستي على مقدرتي الفنية، لم تؤثّر، لأن الموهبة هي الأساس وكانت موجودة. الدراسة تصقل التجربة في الرسم.
هل كان لديك مشاريع فنية، أو شاركت في معارض محلية وعالمية؟
كان لي معارض فردية، وأيضًا شاركت في معارض جماعية، في لبنان وهنا في أميركا الشمالية. وأسّست في لبنان "ملتقى أطياف الفني"، ويضم حوالي 45 رسامًا من منطقة النبطية وجوارها، واهتممنا بمسألة "الأمانة"، أي عدم النسخ، وعدم التقليد، من يرسم لوحة هذا العام مثل لوحة العام الماضي أو أقل مستوى منها لا يستمر في الملتقى، كنت أقول لهم "أبدعوا، يجب أن تتطوروا، من غير المهم أن يمسك الفنان بريشة وتلوين ويقول ‘أنا صرت بيكاسو أو ليوناردو دافنشي‘". وكنت أقول لهم "نحن كلنا طلاب فن، كلنا نتعلم، لا أحد منا احترافي بشكل مطلق، كلنا طلاب فن".
نظّمنا عددًا من المعارض بشكل سنوي، وبدون مبالغة كانت من أنجح المعارض الجماعية في الجنوب. توقفنا في فترة كورونا وبسبب الأزمة الاقتصادية. هذا العام بسبب الحرب، أقمنا معرضًا وأطلقنا عليه اسم "فسحة الأمل". فعلًا مستوى اللوحات كان رائعًا.
شاركت بسومبوزيوم ومعارض بتركيا، تونس، مصر، إيران، فيلادلفيا وديترويت بأميركا، أوتاوا ومونتريال، مرتين في باريس، وغيرها.
علمنا من الفنان أسامة بعلبكي أنه قد تم استهداف منزل والده الفنان الراحل عبد الحميد بعلبكي في قريتهم العديسة، وكان بعلبكي قبل وفاته قد استقر في قريته وأسّس متحفًا لأعماله في المكان حيث يقيم، وفي متحفه لوحات عمرها أكثر من 50 عامًا، هل حاولت نقابة الفنانين اللبنانيين أو وزارة الثقافة أن تقوم بأي إجراء يحمي الجهد والإرث الفني أو يعوّض؟
لا أبدًا، لم يصدر من أي جهة رسمية أي بيان أو دعوة لحماية جهود الفنانين. ولا أي تعويض. فقط اتصلوا بي من تلفزيون لبنان وأجروا مقابلة معي. للأسف الشديد، نحن كفنانين في لبنان، "نقلع شوكنا بيدنا". حتى عندما كنت أنا أو أي فنان آخر نريد أن نقيم معرضًا كنا ندفع من جيوبنا، وتكلفة إيجارات الصالات مرتفعة جدًا، ولا يوجد دعم من الدولة. الفنانون الميسورون ماديًا ليس لديهم مشكلة في ذلك، ولكن هناك الكثير من الفنانين الذين لا يستطيعون عرض أعمالهم بسبب التكاليف العالية لتنظيم معرض فردي.
كيف جئت إلى كندا، وهل من إجراءات معينة اتخذتها كندا لمساعدة الكنديين المتضرّريين في لبنان؟
عند اشتداد الوضع، ذهبت إلى فرنسا أنا وزوجتي وابنتي وولديها. في فرنسا تعيش إحدى بناتي. وكنت أفكر أنها فترة قصيرة وسأعود، ولكن اشتداد الوضع حتّم عليّ المجيء إلى كندا لأن حفيديّ يحتاجان للدخول بالمدرسة، وهذا صعب في فرنسا. ولم أعرف عن أي مبادرات كندية لمساعدة الكنديين اللبنانيين، وبالعكس، هناك عقبات كثيرة تنتظرنا بسبب فقداننا لكل الأوراق الكندية الرسمية من بطاقات ومستندات، كلها أُتلفت مع تدمير المبنى.
كل فنان غنيّ بما يملكه من قدرات فنية، هل تفكر في إنشاء مرسم لك في كندا بعد أن غبت عنها لسنوات؟ أو تنوي إقامة ورش فنية هنا، أو أي دورات تعليمية للرسم، كونك كنتَ في لبنان أستاذًا للرسم أيضًا؟
أنا لم أترك لبنان، أُجبرت على ترك لبنان، وفي اللحظة التي تقف فيها الحرب سأعود. عندي ورشة كبيرة في لبنان، لذلك عندما تتوقف الحرب سأعود، أنا بعمر التقاعد وأريد أن أرتاح. وعندي تحدّيات كثيرة. ولم يتم تدمير منزل واحد، بل منازل كل أولادي أيضًا.
لا أخطّط لمستقبل هنا، ولكن لا أعرف ما الذي قد يحدث. بدأت تأتيني طلبات للرسم هنا. وطُلب مني أن أشارك بلوحاتي في لقاء لجمع التبرّعات للبنان، حاليًا أحاول تلبية هذا الطلب وأن أنجز مجموعة من اللوحات.
المشكلة أن إنتاجاتي عالية، ولكن اللوحة تأخذ وقتًا مني، أهتم بتفاصيلها كثيرًا، لا يمكن أن أنهي لوحة بيومين، أقل وقت لإنجاز لوحة يتطلّب عشرة أيام مني، لذلك فخلال شهر يمكنني أن أقدّم 3 لوحات. هذا لا يلبّي السوق، ولكن يلبّي طلبات خاصة.
كما أني أعطي دروسًا في الرسم أونلاين حاليًا. إذا أراد أحد ما أن يتعلم دروسًا خصوصية في الرسم هنا في كندا سأفعل. وأحب كثيرًا أن أعلّم في ورش فنية أو دورات رسم هنا، ولكن يجب أن يتم تنظيم ذلك عبر جهة معينة. بحكم أنني جئت مؤخرًا، لا أستطيع أن تكون المبادرة مني لتنظيم ورش فنية أو دورات، ولكن إذا حدث وتم ذلك عبر جهة معينة فأنا من أشدّ الراغبين بتعليم الرسم ضمن هذه الدورات. يوجد مواهب، بعض الأفراد يكون لديهم الموهبة، ويحتاجون فقط للتواجد مع رسام والتأثر به قليلًا لتخرج منهم أجمل الإبداعات.
شاركت في معارض جماعية عربية ودولية، ماذا أعطتك هذه التجارب، وهل تدفعك لمحاولة الدخول في الوسط الفني الكندي للاستفادة من التجارب والشعور بالانتماء أكثر للمكان؟
بالتأكيد كل مشاركة جماعية تعطي الكثير للفنان، وإذا تمكنت من أكون قريبًا من الجو الفني الكندي لن أتردّد، ولكن أعتبر نفسي مثل شخص سقط من "باراشوت" في مونتريال، لا أحد يعرفني هنا، خاصة في الوسط الفني. بدايتي فقط هنا مع الجالية، ومع صدى أونلاين. منذ يومين تواصلت معي الصحافية شهيناز كرمالي أجرت معي مقابلة صحافية، كما اقترحت أنه من الأفضل إجراء مقابلة تلفزيونية معي لتسليط الضوء على أعمالي التي خسرتها في لبنان جرّاء القصف.
في كندا، كان عندي معارض فردية سابقًا عندما كنت مقيمًا بشكل دائم هنا، ولكنها كانت ضمن الجو الإسلامي. ولكن بالنهاية، هي معارض في كندا، وكانت ناجحة جدًا لدرحة أني كنت أبيع كل لوحاتي، أما في لبنان فلم تكن المعارض مربحة. المسألة أن اللوحات تأخذ وقتًا لإنجازها لذلك يكون سعرها مرتفعًا، وفي لبنان الأغلبية لا يمكنهم دفع ثمنها، أما هنا، فالميسورون قد يدفعون.
مثلًا لوحة طبيعية، لنهر أو بحر أو جبل أنجزها خلال عدد من الأيام، أتقاضى عليها مبلغًا معينًا حسب حجمها، وحسب عدد الأيام التي تتطلّب مني لإنهائها. أما بعض البورتريهات فقد تأخذ مني حوالي عشرين يومًا لإنجازها لأني أهتم بتفاصيل الوجه جدًا، وبالتالي لا يمكنني أن أضع ثمنًا لها كما اللوحات التي أعمل عليها ثلاثة أيام. لا يزال الكثير يفتقدون لثقافة امتلاك لوحة أصلية ودفع مبلغ عالٍ لأجلها.
نلاحظ أن ثمة احتكاك فني بين أعمالك والواقع، تأويل للمرئي مرتبط بالشحنات العميقة التي يبثها فيك، وكأننا أمام نسخ للعالم وتأريخ له بكل ما فيه.. نرى غزة حاضرة، المقاومة، الإمام الحسين، الأم، الأب خلال عمله، ما الذي يدفعك لتكون قريبًا لهذا الحدّ، هل على الفن أن يكون مرآة للواقع؟
الفنانون يتعاطون مع الفن بطريقتين مختلفتين، منهم من يعتبر أن الفن للفن، وأن هذا إبداع، لماذا عليّ أن أربطه بقضية، بثقافة معينة؛ وهناك الفن الملتزم، أي الملتزم بقضية، أنا ابن لبنان، أنا ابن الإسلام، أنا ابن فلسطين، أنا ابن الحسين، هذا فكري وهذا قلبي، ومن الطبيعي أن تنعكس بأعمالي الفنية، وباختياري للمواضيع، أنا فنان أحب الجمال، أرسم الطبيعة، والطبيعة هي أفضل معلّم، أقدّسها، أقدّرها، الشمس، الشروق، الغروب، الشجرة، الجبل، النهر، كلها آيات، ربما تعوّد عليها الناس فلم يعودوا يقدّرونها، ولكن الفنان يرى جمالها كل يوم. كنت في النبطية أصوّر الشروق يوميًا وأضع الصورة على الفيسبوك، لأنه منظر جميل جدًا، وكل يوم يختلف عن الذي قبله، ولا أملّ منه.
أرسم الانتفاضة، المقاومة، الشهداء، التضحيات، جزء من هدفي أن أوثّق الأشياء. عندما رجعت إلى النبطية بعد غياب طويل، وجدت أن البيوت التراثية تندثر شيئًا فشيئًا، يدمّرونها ويبنون مكانها عمارات عالية، رسمت مجموعة من اللوحات هي البيوت التراثية في النبطية. لاحظت أن الأماكن الأثرية في لبنان لم تأخذ حقها من فناني لبنان، يرسمون قلعة بعلبك، أو صيدا، أو صور كيفما كان، المهم أن يضعوا هذه الألوان وانتهى. بالتأكيد هناك بعض الرسامين الذي يبدعون بذلك، ولكن أقول ذلك بشكل عام، فقررت بأن تكون عندي مهمة وهي توثيق الأماكن التراثية الرائعة في لبنان. فرسمت مجموعة كبيرة عن قلاع لبنان، صور، صيدا، بعلبك، المسيلحة، وغيرها.
إذًا تحب أن يكون العمل الفني متكلمًا وليس تجريديًا صامتًا، معتمدًا على الواقعية التعبيرية في أعمالك..
ريشتي معروفة، وكل من يرى لوحاتي يعرف أنها لي، عندي بصمة مختلفة. الواقعية مثل الساعة التقليدية لا تبطل، الكلاسيكي لا يبطل، الأشياء الجديدة تبطل، كأن يقولوا هذا موضة. أعتبر أن الفن ليس موضة. بيكاسو رسم رسومات تجريدية، لماذا عليّ أن أتبع الرسم التجريدي.
أنا بعيد عن الرسم التجريدي، جرّبته وكان عندي عدد قليل من الرسومات التجريدية ولكني لم أجد نفسي فيها. أحب اللوحات التي تحكي قصة واقعية، مثل لوحة أمي أو أبي.
تسيطر الطبيعة أيضًا على أعمالك، هل يعود ذلك بسبب إقامتك في الجنوب اللبناني الذي يمنح مسافات روحية من الصفاء لقاطنيه قد لا يدركونها حتى هم أنفسهم؟
يقولون إنه في الجنوب تحت كل صخرة يوجد فنان أو شاعر أو أديب، وهذا أمر صحيح، لأن البيئة الخارجية تعكس نفسها على ناسها. في الأماكن الجبلية نسمع صوت العصافير، ونرى السماء والغيوم والشجر، ونشمّ الزهر والحبق، وكل ذلك غير موجود في المدن، لذلك برأيي أن البيئة الجبلية تُنتج فنًا أكثر من بيئة المدينة!
منذ كنت صغيرًا كنت أعشق الطبيعة؛ عندما كنا نذهب للنهر، كان رفاقي ينزلون في النهر للسباحة، أنا كنت أذهب بين الشجر والصخور وفي الجبال، وكنت مع الوقت أحب أن أذهب إلى النهر لأرسم المكان هناك.
ومنذ صغري كنتُ ملتزمًا دينيًا، وكان هناك فتوى للسيد الخوئي بتحريم رسم الأشخاص، فلم أكن أرسم البورتريه، وكنت أركّز على الطبيعة وعلى الأماكن الأثرية، القلاع وغيرها. وبعد وفاة السيد الخوئي، كانت الفتاوى تجيز ذلك وتعتبر أن الرسم أداة تعبير مميزة. وهنا بدأت برسم الانتفاضة بوجوهها وأبطالها، بأسمائهم، محمد الدرة، فارس عودة وآخرين. ولما رجعت إلى لبنان بعد أسفاري، رسمت السيد حسن نصرالله، والسيد الخامنئي، والسيد فضل الله. من أحبّه أرسمه، وهذه الرسومات لا أبيعها، رسمتهم لنفسي. وعندما كان يُطلب مني بورتريه لهؤلاء الشخصيات كنت أرسم لوحة ثانية وأعطيها حقها، وأبيعها.
ولكن عندما رسمت الموناليزا، رسمتها لنفسي وليس لأبيعها. أيضًا، لوحة "مكة المكرّمة"، عُرض عليّ بيعها ولكني لم أفعل.
هل ترى أن طبيعة كندا ستكون ملهمة لك؟
لطالما كانت طبيعة كندا ملهمة، عندي مجموعة لوحات عن كندا، رسمتها خلال إقامتي في كندا وكذلك لما عدت إلى لبنان. وعندما ذهبت إلى سويسرا رسمت عددًا من اللوحات للطبيعة هناك. المكان الذي أحبه أرسمه. في فرنسا أيضًا رسمت أمكنة هناك.
تقول الروائية الأميركية غيرترود شتاين، أن العمل الفنّي لا يمكن أن يُنْجَزَ إلا في مكان بعيد، أو في مكان غير المكان الذي يعيش فيه الكاتب، هل أنت قريب من هذه المقولة، أتفضّل العزلة لترسم؟
أفضّل أن أكون وحدي عندما أرسم، نعم، ولكن هناك الكثير من معارض السمبوزيوم، وهو رسم أمام الجمهور، وقد يشارك مئة رسام، نأخذ أدواتنا ومكانًا ونبدأ بالرسم أمام الناس وهم يتجولون بيننا، أحب ذلك. الفرق بين هذا الرسم وبين رسمي في الاستديو الخاص بي، هو أن هذه اللوحة يجب أن تنتهي بنفس اليوم، فلا يكون فيها نفس التفاصيل، نفس التعلّق، ولكن كتجربة هي جميلة جدًا، وخصوصًا للفنانين من الأجيال الجديدة الذين هم أقل خبرة، فحين يرون فنانًا مخضرمًا يرسم أمامهم وبجلسة واحدة، فيها شيء يشبه المدرسة وهو شعور جميل للجميع.
بعض الفنانين باتوا يعتمدون على برامج الذكاء الاصطناعي لإنجاز لوحاتهم، ماذا تقول في ذلك، وتأثيره على الإبداع؟
الذكاء الاصطناعي هو نسخة مطوّرة من الفوتوشوب. الجميل فيه أنه لا ينسخ شيئًا موجودًا، هو يستعمل كل اللوحات بالعالم ويستعملها بذكاء ليعطي شيئًا جديدًا، فالذكاء الاصطناعي يعطي لوحة جديدة لا أحد رسم مثلها من قبل، ولكن عناصر كثيرة منها مقتبسة من لوحات سابقة من فعل الإنسان. يعود الأمر للرسام عندما يصف لبرنامج الذكاء الاصطناعي ماذا يريد بتفاصيل كثيرة، كأنه يرسم بكلمات، والبرنامج يرسم له لوحة.
ما هي قيمتها الفنية؟ مثلها مثل ديجيتال آرت، البعض يحبها ويعتبرها فنًا، والبعض يعتبرها تكنولوجيا وبعيدة عن الفن، لأنها ليست يدوية. هي أهم من الفوتوشوب ومن الديجتال آرت، لا تزال جديدة على الفنانين. ولكن هل تؤثر على العمل الفني؟ ربما ستساعد الفنان، إذا استطاع أن يستعملها بشكل صحيح، بحيث تعطيه تفاصيل لم يتخيلها، ولكن بنهاية المطاف، إذا استعملها الفنان بطباعتها هذا شيء، وإذا استفاد من اللوحة المنتجة من قبل الذكاء الاصطناعي، وأنجز لوحة مثلها بريشته فهذا أمر آخر ومختلف. أقول إن الوضع لا يزال ضبابيًا، والكثير من الناس لم يستوعبوا بعد قدرات الذكاء الاصطناعي، ولكن مستقبله رهيب جدًا، رغم أننا لا زلنا في بداياته ولكنه يعيطينا هذا القدر الكبير من كل شيء، إذا بالتأكيد سنصل لمراحل مذهلة لاحقًا في هذا العالم.
85 مشاهدة
19 ديسمبر, 2024
284 مشاهدة
09 ديسمبر, 2024
372 مشاهدة
03 ديسمبر, 2024