Sadaonline

لبنان: دولة أم مزرعة؟

الذين لا زالوا يعلقون آمال كبيرة على التطبيع و على كرم العم سام، لن تجنوا سوى الخيبة

د. بلال العاملي - مونتريال 

 تخيل أنك صاحب مزرعة، فيأتي جارك و يستولي على بعض أراضيك، ثم يدمر منشآتك، و يخرب بساتينك، و يقتل بعض خرافك، و يسرق مياهك، و انت تراقب كل ذلك دون أن تقوم بالدفاع عن مزرعتك. ثم يتدخل مبعوث العم سام و يطلب منك أن تذعن لجارك و تصالحه دون أن يعيد إليك أراضيك و يكف عدوانه عنك. و عندما ترفض التطبيع معه، يهددك المبعوث بإطلاق يدي جارك ليكمل على مزرعتك بالكامل، و يأمرك بتجريد حراسك صوناً لأمن و راحة الجار المدلل، فيمنعك من الدفاع عن نفسك، و يشتري بعض خرافك السمينة للانقلاب عليك. ثم يأتي أصحاب المزارع الأخرى الذين كنت تعتبرهم اخوانك في السراء و الضراء، فينصحوك بالاستسلام، لإنهم انبطحوا أمام العم سام، بل و حتى يهددوك بإنك إذا لم تذعن لمطالب العم سام و إبنه المدلل فسوف يقاطعوك و لن ترى منهم فلساً واحداً لإعمار ما خربه جارك. فماذا أنت فاعل؟ هل تستسلم و وتنسى املاكك و تجرد حراسك من أسلحتهم و تمد يدك لمصالحة جارك المستبد و "يا دار ما دخلك شر"؟ أم تقف بوجه غطرسة الجار المستبد و وكلاءه؟ أليست هذه محنة لبنان اليوم، دولة و شعب؟

كل الأمور تدل على أن الدولة و خرفانها الذين يطبلون للتطبيع يسعون لخيار الاستسلام بدل المواجهة. ناسين او متناسين الحقائق التالية.

أولاً، أن إسرائيل تحتل 29 قرية لبنانية جنوبية منذ عام 1948، و بعض الأراضي و المزارع التي استولت عليها بعد حرب ال1967 و اجتياح 1982، و أضافت إليها اليوم بعض المواقع1.  

ثانياً، أن إسرائيل استولت بالقوة على نهري الحاصباني و الوزاني و أقامت سياج داخل الأراضي اللبنانية لتمنع القرى المجاورة من الاستفادة منها. كما استولت على المياه الجوفية و الينابيع المتدفقة على السفوح الغربية لجبل الشيخ، فيبلغ مجموع المياه التي تسرقها إسرائيل من لبنان 429 مليون م3 سنوياً، حسب تقديرات الباحث الجيولوجي الدكتور طارق المجذوب. بينما تقتصر حصة لبنان من هذه الأنهر و الينابيع على أقل من 7 ملايين م3 . بينما تقدر حاجة لبنان لمياه الشرب فقط بمائة مليون م3 ، عدا عن حاجاته الزراعية و الصناعية و غيرها2.

ثالثاً، باعتراف بعض المحللين الأمريكان و الأوروبيين و أحد المسؤولين اللبنانيين الذي لا تربطه أي علاقة بمحور الممانعة و بحزب الله، أن إسرائيل هي التي دمرت مرفأ بيروت3. هل نسيتم ما فعلت إسرائيل في 1968 حين قصفت مطار بيروت الدولي، مدمرة أثني عشر طائرة ركاب مدنية تابعة لشركة طيران الشرق الأوسط، دون أي سبب موجب سوى تدمير الاقتصاد اللبناني بعد أن كان لبنان خلال الستينات من القرن الماضي الوجهة الرئيسية في منطقة الشرق الأوسط للاستثمارات و للسواح العرب و الأجانب، و حين كان مرفأ بيروت الممر الإلزامي لسفن الشحن لكافة دول الشرق الأوسط و حوض البحر المتوسط، بدلاً من مرفأ حيفا في فلسطين المحتلة، و مطار بيروت الدولي المحطة الرئيسية لحركة الطيران في المنطقة عوضاً عن مطار اللد في فلسطين المحتلة. لبنان الذي كان يضاهي سويسرا و أرقى دول العالم، بجامعاته المحترمة عالمياً و بمستشفياته المتقدمة علمياً و طبياً، لبنان الأمان و الاستقرار، و الليرة التي كانت تنافس الدولار. كان الإسرائيليون ينظرون إلى لبنان بعين ملؤها الحسد. فقرروا القضاء على تلك الواحة الحضارية.

رابعاً، هل نسيتم كيف تآمرت إسرائيل على لبنان عندما حاولت و لا تزال تحاول تفتيت بنيته الاجتماعية. كان لبنان نموذجاً عالمياً للتعايش يبن كافة الأديان و المذاهب. إذ يضم أكثر من سبعة عشر طائفة و مذهب كانت تعيش بسلام مع بعضها البعض، بالرغم من بعض الخلافات و المناوشات،  و تتشارك في المسكن والمأكل و المشرب و العمل و الطقوس الدينية و الاحتفالات الوطنية و الاجتماعية. لذلك كان النموذج اللبناني للعيش المشترك نقيضاً لمشروع الدولة اليهودية العنصرية. لذلك قرر الصهاينة تفتيت البنية الاجتماعية للنظام اللبناني، و ضرب اسطورة العيش المشترك بين مكوناته. لبنان الرسالة الذي قال عنه البابا يوحنا بولس الثاني حين زار لبنان في أيار 1997: "انّ لبنان أكثر من وطن، هو رسالة حرية وعيش مشترك للشرق والغرب. لبنان هو أكثر من وطن، أكثر من بلد، أنّه رسالة، رسالة العيش المشترك السوي بين المسلمين والمسيحيين، ورسالة للغرب الأوروبي والأميركي مثلما هو رسالة للشرق العربي والإسلامي، أي انّه رسالة عالمية".

 

 ارجعوا إلى تاريخ 15 أيار 1955، حين اجتمع كبار المسؤولين الصهاينة بن غوريون، و موشي شارات، و موشي دايان، و يغال آلون و اتفقوا على استخدام لبنان كمنصة انطلاق لزعزعة الدولة العربية و زرع الفتن الداخلية بين الطوائف و المذاهب و القوميات المختلفة. و كانت الخطة تفتيت المجتمع اللبناني أولا4. حينها لم يكن هناك حزب الله و لا مقاومة فلسطينية.

أما عن الاغتيالات التي حصلت في لبنان من الشهيد رفيق الحريري حتى يومنا هذا، ألم تكن إسرائيل المستفيد الاكبر منها؟ و لذلك يجب إعادة النظر بكل ما حدث و يحدث اليوم في لبنان و المنطقة بأسرها، و عدم التسرع بإلقاء التهم جزافاً دون البحث عن أرباب الغرف السوداء التي تتحكم بمصير المنطقة و العالم.

إلى اللبنانيين الذين لا زالوا يعلقون آمال كبيرة على التطبيع و على كرم العم سام، لن تجنوا سوى الخيبة، افيقوا من الأحلام الوردية و الأوهام، فالآتي سيصعقنا جميعاً. 

المصادر

1) La Rude Épreuve du Liban Sud, Commission permanente pour l’information arabe, Conseil des ministres arabe de l’information, Beyrouth, Liban, 1979, P. 146. 

2) "مياه الحاصباني و الوزاني أخطر من مزارع شبعا في ملف الإحتلال الإسرائيلي"، تحقيق هواري زهير، جريدة السفير اللبنانية، العدد 9300، تاريخ 13 أيلول 2002.

3) تصريح الوزير السابق الياس المر للجديد يتهم فيه إسرائيل بتفجير مرفأ بيروت. 22 نيسان 2024.

4) الإتصالات السرية العربية-الصهيونية: 1918-1993. تأليف أمين مصطفى. دار الوسيلة، بيروت، 1994، صفحة 90.