دارين حوماني ـ مونتريال
"مجدرة حمرا" و"شو منلبس"، مسرحيتان للمخرج القدير يحي جابر، قدّمتهما المبدعة أنجو ريحان على مسرح "أندريه ماثيو" في لافال يومي الجمعة والسبت الفائتين، وفيما تركّز "مجدرة حمرا" على موضوعات اجتماعية لها علاقة بمعاناة المرأة والعنف والتحرّر والذكورية، تركّز "شو منلبس" أكثر على موضوعات سياسية. وإن كان طرح المسرحيتين تم بتحديد المكان "الجنوب اللبناني" والشخصيات من "الطائفة الشيعية" وبأسلوب كوميدي إلا أن الرسائل السياسية وما تحمله من نقد مجتمعي تأخذنا في عرض مسرحي تراجيكوميديا عميق، يحكي عن الإنسان في كل مكان على الأرض، عن مظلومية الشعوب بشكل عام ومآسيها وبأقرب ما يكون إلى القلب، عبر الضحكة، ما يوسّع من مساحة التأثّر بالعمل ويعمّق من مشاعرنا تجاه النص والممثلة والمخرج.
"مجدرة جمرا"
"مجدرة حمرا" عمل مونودرامي وديالوغي ممثلته الوحيدة أنجو ريحان، تقدّم ريحان شخصيات ثلاثة هنّ صديقات منذ الطفولة، وببراعة شديدة وعفوية لافتة ودون تصنّع أو تكلّف، تغوص ريحان بين الثلاثة كما مع شخصيات أخرى يفرضها الحوار، والنساء الثلاثة هنّ: "مريم" الكاتبة والمتحرّرة التي تعيش في فرنسا وتريد الانفصال عن زوجها، و"سعاد" التي تتعرّض للعنف من قبل زوجها وتصمت عن ذلك، وتبرّر أفعاله، و"كل القرارات بإيدو- إنتِ بتحبّيه لخضر- هوّي بيقرّر"، وهو ما يشير إلى مسؤولية تقع على المرأة في الاستسلام والصمت والتبرير، وهو أمر منتشر في لبنان. والشخصية الثالثة هي "فطم" التي كان تحب زوجها "أبو علي" كثيرًا: "قال بيضربها، إي أنا زوجي أبو علي الله يرحمه، مش ولا مرة مدّ إيدو عليّ، ولا مرّة رفع صوتو بوجّي"، لكن فطم الآن أرملة وممنوعة من الزواج، حيث يرفض أولادها زواجها بسبب تقاليد المجتمع.
ويقرأ هذا العمل مواقف لبنانيين من الحرب الإسرائيلية على لبنان، خلال حرب تموز العام 2006 تقول "عم إسمعها تقول: الحق علينا، من ورانا، ونحنا للي جبناهن (الإسرائيليين) هيي تحكي وأنا إغلي وأبو علي يقول: وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا...". لكن كل هذه القصص تمرّ من خلال خيط من البهجة المتواصلة وبلهجة جنوبية قريبة إلى القلب "أنِي بجيب العدس من أبو كمال، على مفرق ميفدون، وين صورة الأستاذ نبيه بري، تبع ‘الويل إذا نفذ صبره‘".
"شو منلبس"
في "شو منلبس" يقترب يحي جابر من ماضي اليسار اللبناني ومن تفاصيل عشناها كلنا، يعيد تمثيل تفاصيل حميمة من ماضينا، وتفاصيل أخرى محزنة، ومعاناة كثيرة، يبدأ من 25-11-1983 عند اعتقال الوالد يوسف سلامة على يد جنود الاحتلال الإسرائيلي بسبب نضاله ضد الاحتلال مع الحزب الشيوعي، وكان عمر الطفلة يارا 10 سنوات. ينقل الاحتلال الإسرائيلي سلامة من سجن الريجي في النبطية المحتلة، إلى سجن أنصار، فإلى سجن عتليت في فلسطين المحتلة، وعند خروجه من السجن، يتعرّض لتهديدات، فينتقل إلى منطقة الرميلة قرب مدينة صيدا، وبعد أن يستهدف الاحتلال الإسرائيلي مقرّ اجتماع للحزب الشيوعي، يعود إلى قريته الجنوبية.
خلال هذه السرديات، نذهب عميقًا في طفولة أنجو ريحان، ماضي والدها ووالدتها، من رسائل السجن التي كان يرسلها لهم، واقتحامات الإسرائيلي لبيوت المواطنين، وحكايات التهجير، والتهديد من قبل البيت الداخلي، وأحلام "سنصبح على وطن كما نحلم به"، و"بيّ راح مع العسكر، قاتل وانهزم بعنجر"، بديلًا من "قاتل وانتصر بعنجر"، حتى أننا ندخل معها في تفاصيل حياتها الصغيرة والممتعة، وحبّها لأحد الصبية، ورغبة فتاة القرية بأن يكنّ كما فتيات القرية اللواتي يعشن في بيروت، كانت بيروت الحلم ليارا ولرفيقاتها في المدرسة، ثم رغبتها في أن تصبح مسيحية وراهبة في طفولتها وبعد أيام تقرّر أن تضع الحجاب الإسلامي، وهو ما يُظهر تأثّر الأطفال بالأجواء التي تحيط بهنّ. وهو ما يشير إلى عنوان المسرحية "شو منلبس" بين ارتداء الحجاب أو عدم ارتدائه، وفي البحر، بين ارتداء لباس البحر أو السباحة بثياب محتشمة، ولكن الفكرة أعمق من ذلك بكثير. فهي تدخل في تأثّرنا حتى نحن ككبار في أفكار البيئة التي تحيط بنا.
في حديث سابق لنا مع المخرج يحي جابر، يقول جابر:
"شو منلبس" هي مسرحية تعود لفكرة من يُلبسنا، وماذا نلبس، أقصد أفكارنا وآراءنا ووجهات نظرنا بالحياة، تركيبتنا، قلقنا، هناك دائمًا شخص يساهم في تلبيسنا أفكارنا. نحاول أن نغيّر، أن نتعرى، أن نلبس حجابًا، لا نعرف من يقودنا. هي مسرحية فيها من التاريخ، مرحلة من جنوب لبنان من نوع آخر، وفيها جرأة وشجاعة، وتذهب إلى أمكنة مختلفة، الاحتلال الإسرائيلي، معتقل أنصار، مرحلة التحرير التي لم يقترب منها أحد، نظرة من زاوية طفلة، وشغل جريء، لأن الكل تحاشى الاقتراب من مرحلة التحرير فقررت أن أتناوله من دون ادّعاءات سياسية.
وعن الممثلة سعاد في "مجدرة حمرا التي تجد في عنف زوجها أمرًا عاديًا، وتستسلم له، يقول: "في ‘مجدرة حمرا‘ أجعل الجمهور يشعر أنه يرغب بضرب الممثلة من أجل توعيتها".
ثمة حكايات كثيرة في مسرحيتي "مجدرة حمرا"، و"شو منلبس" تخصّنا كلنا، وقبلهما قدّمت أنجو ريحان مع يحي جابر العمل المسرحي "اسمي جوليا"، سلّط جابر الضوء فيه على معاناة المرأة مع مرض السرطان ومع الذكورية. هكذا يشتغل يحي جابر، فموضوعاته الهوية، الطائفية، الحرب، المرأة، الفقر، الذكورية وغيرها، وفي كل هؤلاء نجد أنفسنا، كما هي أنجو موجودة ويحي أيضًا. ففي هذه النصوص المسرحية الجريئة كل ما يشبهنا وكل ما يوقظنا نحو "وطن كما نحلم به".
عن هذه الأعمال كان لنا هذا الحوار مع أنجو ريحان، وهي ابنة بلدة كفر صير الجنوبية وكما تعتزّ بهويتها الجنوبية، فقد درست المسرح في بيروت، وفيه كبرت بين جمهور يحبها، ونعتزّ نحن بأدائها وأعمالها:
إذا عدنا إلى البدايات، أنجو ريحان الطفلة والبيئة الجنوبية، كيف نشأت علاقتك بالمسرح؟
أعتقد أن أي إنسان يختار التمثيل هو شخص يريد أن يعبّر عن أشياء لم يستطع أن يعبّر عنها في طفولته. في طفولتي وإجمالًا المراهقة، كنت شخصًا يريد أن يقدّم شيئًا لغيره، يريد أن يُضحك غيره، يريد أن يحدّثهم، علاقتي بالعالم، حبي لهذه المهنة بدأ من هذه التفاصيل، أحب أن أترك أثرًا في المكان الذي أكون فيه. بدأت منذ ذلك الوقت، ربما مع تلك الملعقة الخشبية، آخذها من الجارور في المطبخ، وأبدأ بتأدية دور تمثيلي، هذه التفاصيل أذكرها كثيرًا.
فيما بعد علمت أن التمثيل يُدرّس، ولم أكن أعلم قبل ذلك. كنتُ أعيش في قريتي في الجنوب، وكان سقف حلمي أن أنزل إلى بيروت، مع أن جو المنزل، وأمي، أن أكون معلمة مدرسة وأتزوج وأنجب طفلين وأعيش بالضيعة. كنت رافضة لهذا الأمر ولكني لم أكن أعرف إلى أين أنا ذاهبة وإلى أين سأصل. اضطررت أن أدرس في دار المعلمين لأن أهلي كانوا يفضّلون أن أكون معلمة، كوظيفة ثابتة. وبعد أن درست الرسم في دار المعلمين، وصرتُ معلمة، وافقوا أن أنزل إلى بيروت لأدرس المسرح.
حصدتِ جائزة أفضل ممثلة في مهرجان لبنان الوطني للمسرح عام 2020 عن عملك "مجدرة حمرا"، ونلاحظ تفاعل الجمهور مع النص والأداء، ما هو شعورك أمام هذا النجاح، وهل كانت ابنة كفرصير تتوقع أن يكون لها هذا الحضور في قلوب الناس لهذه الدرجة؟
نعم هذه الجائزة تعني لي لأني أخذتها من أساتذتي في الجامعة، كانوا في لجنة التحكيم، لها مكان خاص بقلبي، وبطبيعة الحال أشعر أن المحبة تأتي من الصدق، الصدق في أي شيء نقدّمه وننجزه وفعلًا نتعب عليه، واحترام المهنة، ومن الاشتغال على الصحة النفسية، فحين نتقبّل أنفسنا نصبح قادرين على أن نتعاطى بشكل طيب مع العالم، وأنا أحب الناس كثيرًا، وتصير قصصنا متبادلة.
حين شاهدنا "مجدرة حمرا" و"شو منلبس"، شعرنا أن النصّين يحملان الكثير من سيرتك الذاتية، كأنك ويحي جابر تشاركتما الكتابة، إلى أي مدى تحقّق ذلك؟ وهذه المشاركة والتفاعل بينك المخرج كيف يمكنك وصفه، أو إخبارنا عنه؟
إجمالًا يحي جابر لا يقدّم النص جاهزًا للممثل كما يحدث غالبًا في مهنة التمثيل. أكيد فكرة العمل الرئيسية وأفكارها المتوالية تكون موجودة، ولكنه يفضّل أن يسمع من قصص الممثل الخاصة، لأنه يعتبر أن النص يجب أن يتكيّف مع النص، أي أن يأتي النص إلى الممثل وليس أن يذهب الممثل للنص. حتى أحيانًا كان يكتب عبارات ثم إذا شعر أني لستُ مرتاحة مع هذه العبارات كان يحذفها. الأولوية عنده راحة الممثل، وأن يحدث رابط بين كل القصص التي تُحكى وبين الممثل، مثل أي تمرين أو إعداد لشخصية معينة حين نأخذ من ذاكرتنا الحسية والذاكرة العاطفية، يجرّب يحي جابر أن تذهب الأشياء في هذا الاتجاه.
بالتأكيد "شو منلبس" فيها الكثير مني، "مجدرة حمرا" أيضًا فيها قصص مني، لا يوجد شخصية إلا وفيها نسبة معينة مني ومن أي امرأة. كلنا في مكان ما "سعاد"، بتبريرنا لأي عنف أو أذية، تبرير مستمر، كلنا بمكان ما "مريم" المحتارة في أي بلد تريد أن تعيش، كلنا في مكان ما "فطم" كإنسانة ناضلت لوحدها ولما وصلت لمكان طالبت أن يكون لها حق، يتبيّن أن الناس الذين كانت قد اتكلت عليهم الآن تجد نفسها تقف ضدهم. كلنا قادرون أن نكون هذه الشخصيات، ولكن شخصية "شو منلبس" أقرب أكثر لي لأن جزء كبير منها أنا عايشته.
أنا أكتب تحت يد يحي جابر، هو الكاتب وهو المخرج. كل القصص قادرين أن نخبرها، وهناك قصص قد تكون بلا أي إثارة وتكون عادية نقولها، ولكن كيف تُخبّر وتقدّم هذه القصة وكيف تصل يكمن الإبداع، وهنا الذكاء. حتى القصة التي تشبه قصتي، كيف كُتبت وكيف حضّرنا للمشهد التالي، القفلة، ماذا أردنا أن نقول، هؤلاء هم المهمون وإلا ستخّبر القصة بشكل أفقي، ولا يكون فيها صعود ونزول. لهذه الدرجة الجلوس مع المخرج مهم لنتمكن من الوصول لنُخبر هذه القصة بهذا الشكل الذي يقدّم للجمهور.
تلعبين في أدوارك مع يحي جابر دور المرأة الجنوبية الشيعية، والجميل في هذه الأعمال هو الانتقال من الشخصي إلى العام، كيف تجدين مساهمة هويتك الجنوبية وتجربتك الشخصية في إنجاح العمل؟
هدف يحي جابر في كل مسرحياته "أن نتعرّف على بعض" وهو يقولها دائمًا وقد صُقل هذا الأمر أكثر في مسرحياته "مجدرة جمرا" و"شو منلبس" و"اسمي جوليا" التي أدّيتُها، وهو لديه مسرحية عنوانها "تعارفوا".
صحيح أننا كلبنانيين نعيش في نفس البلد لكننا لا نعرف الكثير عن بعضنا، ربما المشتغلين بمجال المسرح والتمثيل بشكل عام متقاربون لبعضهم أكثر، لأنهم يتخطون موضوع الطائفة والتطرّف الحزبي. ولكن في مجالات أخرى، لا تزال الطائفية مترسخة. نحن اللبنانيون مقسّمون، وهذا ليس بجديد. اللبنانيون عبر هذه المسرحيات يتعرّفون على بعضهم، ويجدون أن لديهم أشياء مشتركة فيما بينهم.
في المسرحيات الثلاثة التي ذكرتها، أقوم بشخصية امرأة شيعية، وهذا واضح ومذكور في نص المسرحية، ولكن يحي جابر لا يتحدّث فقط عن الشيعة. هو عندما يريد أن يحكي عن أي شخصية لا يريد أن يجرّدها من انتمائها ولا من لهجتها، كما يقول أي لبناني عندما يقع، يقول فجأة "يا عدرا"، أو "بسم الله الرحمن الرحيم"، هذا الشيء يخرج منا بشكل لاشعوري. إذا أردنا أن نحذف هذه الجمل ونجرّد الشخصية من انتمائها، من لغتها وتقاليدها، كي نتحدث عن شخصية لا مسلمة ولا مسيحية، ستصبح الشخصية واهية، من هي هذه الشخصية؟ يحي جابر تعمّد بشكل ثابت أن تكون الشخصية لها كل "إكسسواراتها" وكل تاريخها لتكون واقعية. لهذا نجد أن نص يحي جابر صادق لهذه الدرجة وحقيقي وواقعي.
عندما نحكي عن الشخصيات الثلاثة في "مجدرة حمرا"، فهي مصادفة أنهن شيعيات، ولكن عندهن هذه المشاكل، ما هو موجود في كل طائفة وفي كل بلد ويتخطى الطائفية والبلد. حتى في كل العالم يوجد العنف الأسري والمشاكل مع الأولاد وقضايا الانتماء والهوية. أول ما قدّمت "مجدرة حمرا" اعتقد الناس أن المسرحية تحكي فقط عن الشيعة، ولكن يتّضح مباشرة لهم أن هذه القضايا موجودة في كل مكان.
الانتقال من شخصية إلى شخصية خلال العمل وببراعة، يحمل الكثير من الإعجاب لك ويستمتع به المشاهد، هل شكّل ذلك تحدّيًا لك، هل من تحدّيات معينة تواجهك؟
الحقيقة أنني في أول مسرحية لي مع يحي جابر "اسمي جوليا" لم أكن أعرف إلى أين أنا ذاهبة. جلسنا سويًا وحكينا كثيرًا، ثم أعطاني النص وبدأنا ننقّح فيه. في البداية كنت أشعر بنوع من المعاناة في الانتقال من شخصية. أمضينا 8 أشهر في التحضير لـ"مجدرة حمرا، ولكن عندما يكتب الممثل ثم يمحو ثم يكتب، تصبح القصص داخل الرأس.
أنا لا أحفظ النص، ما يحدث أنه مع التكرار يصبح النص طيّعًا في داخلي وقد أفضّل أن أقول بعض العبارات بطريقة ثانية فأكتبها بطريقتي، لأني أجد أنها بالشكل الجديد تربطني بشكل أفضل مع الجملة التالية. تدخل القصص إلى لاوعيي، ثم نبدأ بالاشتغال على كل شخصية، ونحدّد خصائصها والاختلافات بين الشخصيات، كما رأينا مع فطم، بينما سعاد تجلس بطريقة تغلق رجليها تمامًا بحركة من اللاوعي لكثرة ما ضُربت. مريم مرتاحة، رقبتها جالسة، وتفاصيل أخرى، كلها اشتغلناها لكي تخرج الشخصية بما يتناسب مع النص، وعندما أبدأ مع كل شخصية أبدأ بهدوء، كي يحفظ الجمهور أن هذه الشخصية هي هكذا، ويمسك بكل شخصية من الشخصيات عند نطق كل واحدة منهن بالنص الذي لها. والتمرين هو الأساس.
يقول المسرحي أنتونين أرتو: "نحن في حاجة إلى مسرح قوي، متمرّد، يكون بمثابة نداء يعيد النفس بتقديم المثل إلى منبع نزاعاتها، يندّد بهذه النزاعات، ويخلق وسائله التشكيلية والجسمية قوى وإمكانات لتفريغ دماميلنا تفريغًا جماعيًا"، هل تشعرين أن على المسرح بشكل عام أن يحمل همًّا فكريًا ومجتمعيًا؟
فلنبدأ من عبارة "المسرح مرآة الشعب" وهي عبارة تختزل المسرح. أي بلد نذهب إليه نتوجه إلى المسرح لنعرف ثقافة هذا الشعب، ونعرف بماذا يفكر في الوقت الراهن. الأفلام والدراما تُشاهد على عدة مراحل، ولكن المسرح هو المكان الأساسي الذي نفكر فيه ونعبّر ونقول كشعب ماذا نريد. هناك مسرحيات مهّدت لثورات بعد عرضها. أكيد أن هذا المكان هو المكان الذي نتمكن من خلاله أن نعرض مشاكلنا، وليس من الضروري أن نطرح حلولًا بل على الأقل نسلّط الضوء عليها. عندما يكون المسرح بمستوى عالٍ، البلد كله بطبيعة الحال سيكون بمستوى عالٍ، لأن المسرح هو باب الثقافة لكل عمل فني.
إلى أي مدى يمكن للمسرح أن يحرّر الوعي في مجتمعات محاصرة فكريًا ونفسيًا ومع تشديد الرقابة على كل عمل فني؟
الرقابة بالتأكيد تحدّ كثيرًا من العمل. كلما حضّرنا لعمل ما نعرضه أولًا على الرقابة، وقد حذفت الرقابة من قبل مشهدًا من "مجدرة حمرا"، وقد عرضناه بطريقة ثانية. هذا الأمر يؤثّر، ويدفع الناس أن تتجه لمشاهدة أعمال غير جدّية وحقيقية.
أحيانًا يكون هناك خوف من ردّة فعل جمهور معيّن، من مضايقات أخرى، هذا تحدٍّ مثل أي شخص يريد أن يقول كذا، وهو قادم بشيء حقيقي، ما يبقى هو الصدق والأشياء الحقيقية. هناك الكثير من المسرحيات يتم العمل عليها لتتكيّف مع الظروف إلى حدّ ما أو تتماهى. ولكن بالنهاية هذه قصصنا، ونريد أن نعبّر عنها، نحن ماذا نفكر.
بالتأكيد يزداد الوعي عندما تبدأ بمشاهدة هكذا أعمال حقيقية وواقعية وصادقة، والمفارقة التي قام بها يحي جابر، هو أننا في لبنان كان عندنا مسرح نخبوي يُعرض بمسرح بيروت والمدينة ومونو، وكان عندنا مسرح الشونسونيه والذي كنتُ أنا جزءًا منه، ويوجد مسرح جورج خباز الذي عنده مدرسة لوحده، كان لدينا ثلاثة أنواع من المسرح، ولكن لم يكن لدينا مسرح يخبّر قصصًا جدّية وأشياء سياسية وبنفس الوقت يكون كوميديًا، يحي جابر طرح هذا الأمر في أكثر من مسرحية وختامًا معي. في مسرحياتي يقول لي بعض الحاضرين أنهم لأول مرة يشاهدون هذا النوع من المسرح.
ومن الطبيعي أنه كلما تطورنا أكثر وحكينا أكثر كلما أثّر هذا الأمر، وبهذه الطريقة يتشجّع المسرحيون الآخرون بطرح موضوعات ترفع من الوعي المجتمعي، كما تنتقل أفكار المسرحية إلى وعي الجمهور وتوقظه.
هل تتمسّكين ببقاء المسرح فيما يُحكى عن تراجعه في زمن الأحادية العالمية بالثقافة الاستهلاكية وحيث الزمن المعولم يفرض التسطيح والموت المسرحي؟
"مجدرة حمرا" انطلقت منذ خمس سنين، ومنذ سنتين حتى الآن تُعرض ولا تتوقف، وفي كل مرة تُعرض يكون الجمهور أكبر من قبل. ربما ما يحدث هو ردّ فعل عكسي لما نراه على السوشيال ميديا صارت الناس ترغب أن يروا الأشياء والناس وجهًا لوجه، وليس عبر الشاشات. الناس لم تعد ترغب بمشاهدة الأفلام. صار المسرح أحد أسباب خروج الناس من البيت ومن أمام السوشيال ميديا. كنا وصلنا لوقت قلنا لن نعرضها أكثر، ولكن كلما قررنا ذلك نجد أن الجمهور يزداد، وهذا يفاجئنا.
المسرحية لا تتوقف، ربما هناك أسباب لنجاحها، والآن الأمر نفسه مع "شو منلبس"، يسمّونها "أخت مجدرة حمرا الصغيرة" منذ أن انطلقت هذه المسرحية، كان المسرح ممتلئًا، والحجوزات مستمرة للعروض التي سنقدّمها آخر هذا الشهر في بيروت. رغم أننا عرضناها قبلًا خلال هذا العام. وهناك من يشاهد هذه المسرحيات مرة ثم يأتي ليشاهدها مرة ثانية.
شاهدناك على شاشة تلفزيون المستقبل لسنوات تقدمين الكوميديا في "ما فيه متلو"، وقد أضاف حضورك الكثير للعمل، ثم قدّمت أعمالًا درامية، ومع يحي جابر في الكوميديا السوداء، كيف تخبريننا عن هذه التجارب في اقترابها من هويتك الشخصية؛ هذا الانخراط في أكثر من نوع، أيهم أقرب إليك؟
بالتأكيد أفضّل المسرح بشكل مباشر، ولكن ما يأخذني إلى المسرح أو الدراما هو النص، يهمّني النص، ماذا أقدّم، وليس من المهم أن يكون الدور صغيرًا أم كبيرًا، المهم ما يقوله، النص يأخذني أين ما مكان. تجربتي بالمسرح رائعة، أُعطيتُ المساحة والأدوات، تعبت واشتغلت بحبّ، وهذا الأمر هو الذي أوصلني إلى هنا. وخاصة أن هذا النوع من المسرح، ليس فقط أنه لم يكن مجودًا ومشاهدًا في لبنان، بل لم يكن يخرج من لبنان، والآن تمكنّا من القدوم إلى مونتريال، وثق بنا المنتج طارق سكياس وبأن العرض سينجح هنا، ونجح، وعرضنا قبلًا في لندن، وفي دبي.
تجربتي في كندا رائعة. كان عندي خوف كبير أنني أقطع المحيط.. البلد بعيد.. خوف من فكرة أني أعرض مسرحيتين وليس فقط واحدة.. هل يعرفني الناس من خلال "ما فيه متلو" أو المسلسلات الدرامية.. هل سيأتون لمشاهدتي وحدي لمدة ساعة ونصف وأكثر.. رغم الخوف توقعت نجاحًا، ولكن ما حدث فاق كل التوقعات، أول مرة أبكي بعد العمل من تأثري، خاصة بعد "مجدرة حمرا"، ارتحت بعد عرضها، وارتحت أكثر بعد عرض "شو منلبس".
تجربة كانت رائعة، والجالية اللبنانية هنا غمرتني بالحب، أحسست بالكثير من الحب وبحضن جميل، فرحت بالتجربة. والآن أتوجه إلى تورونتو، آمل أن أنجح هناك. بإمكان المسرح أن يتخطى البحار طالما يوجد صدق في الكلمة وصدق في الحركة وصدق في التنفيذ، العالم لا يمكن إلا أن تشاهد ذلك.
من خلال تجربتك في الأعمال التركية المعرّبة كيف تقيّمنيها، وهل تجدين أنها لا تعبّر عن واقعنا العربي، وأن ذلك يعود لمشكلة ندرة كتّاب السيناريو أو اختفاء الأفكار؟
يقولون لكل مقام مقال؛ الأعمال التركية هي مسلسلات عندها قصة خفيفة لطيفة وهناك الكثير من الناس يحبون هذا النوع من المسلسلات التي تمتد على حلقات، يحبون أن ينتظروا ما سيحدث. المسلسلات تعطيهم سببًا للانتظار، وهذا الشيء أُثبت نجاحه. مسلسل "كريستال" حقق لي شعبية كبيرة، كانت تجربتي بتركيا رائعة، سافرت تعرفت إلى أناس كثيرين.
كل شيء نقوم به يكون فيه غنى لأنفسنا، أتعلم دائمًا أشياء جديدة، وأنا شخص أعتبر أني لم أحقق بعد كل ما أريد. أشتغل بشكل يومي على نفسي وصوتي، وأحاول تقديم أشياء أفتخر بها، وأن أصل من مكان لمكان أفضل. تجربة تركيا كانت تجربة جميلة. ولكن الآن في هذه اللحظة إذا سألتني ماذا أريد، أقول أريد أن أقف على خشبة المسرح.
مع فترة الحرب، خلال الشهرين الفائتين، شخصيتي تغيّرت وبدأت أشعر باليأس مع توقفي عن العروض المسرحية، أردت أن أعود للمسرح وللّذة والإدمان أن أقف على المسرح، أن أتعاطى مع الجمهور وأراهم عندما يقفون في النهاية.. أبيع الدنيا كلها لأجل هذه اللحظات.
232 مشاهدة
03 ديسمبر, 2024
223 مشاهدة
01 ديسمبر, 2024
257 مشاهدة
25 نوفمبر, 2024