د. علي ضاهر
نعيش في زمنٍ لم تعد فيه الحروب تُخاض بالمدافع فقط، بل تُدار ببراعة عبر النحوَ والصرف والتلاعب بالكلمات. كل طرف لا يكتفي بإطلاق النار، بل يُطلق معها حزمة من التعريفات التي تخدم مصالحه، مما أوقع المتلقي في حيص بيص؛ وحيص بيص هنا ليست مجرد تعبير، بل حالة ذهنية دائمة. أمام هذا التخبط، قرّرت الأمم المتحدة، تلك المؤسسة التي تدار من قبل حفنة مهيمنة ومتسلطة، أن تُشكّل لجنة دولية "رفيعة المستوى". طبعًا، ليس لإيقاف الرصاص وإعطاء كل ذي حق حقه، بل للعمل على المصطلحات، وإعادة صياغة تعريفاتها بحيث تُستخدم لصالح المهيمن المتسلط، مع تجميلها وصبغها بطلاء لامع لتغطية الواقع الكريه، لا لوصفه كما هو. الهدف المعلن: توحيد المفاهيم، أما الهدف الحقيقي: تخفيف الوقع على المتلقي.
اجتمعت اللجنة، ووضعت أمامها حزمة من المصطلحات التي تدهورت حالتها من كثرة اللعب بها وشدّها من كل طرف إلى ناحيته، حتى أصبحت كالقطعة البالية لا تنفع ولا تستر. وبعد جهد جهيد وأخذ ورد، تم الاتفاق على إعادة تعريف حزمة مختارة المفاهيم، نذكر بعضًا منها.
محتل: لم يعد من اللائق تسمية الرجل الذي يسعى لإيجاد وطن يستره ويأويه باسم "محتل". فهذه كلمة ثقيلة على السمع، توحي بالسلبطة والبلطجة. لذا يجب استبدالها بـ "إنسان قلق على استقراره الشخصي"، أو "هارب من القمع" او "مستوطِن"، على ان يصار لاحقًا تطوير مفهوم "الاستيطان" ليصير "توسع عمراني إنساني"، أو "مشروع تنمية"، أو "إعادة تأهيل أراضٍ شاغرة"، أو "استثمار عقاري". نعم، من قال إن الأرض لا تحتاج إلى استثمارات والى تحسين وتجميل؟ يمكن جعلها ريفيرا، مثلاً، لا حصرًا! او جعلها "وجهة سياحية واعدة"!
قتل: كلمة محمّلة بالسلبية، كرهها الضمير منذ زمن قايين وهابيل. لا بد من إعادة صياغتها رحمةً بأذان الإنسانية. فهل في "تحييد شخص"، أو "إزالة تهديد محتمل"، أو "خسائر جانبية" أي عيب؟ لا والله، إنها تعابير أنيقة كلها جمالية ومحبة تقوم بواجب القتل على أحسن وجه!
تدمير: تعبير مشين لا يليق بعصر التكنولوجيا والحداثة. نحن في عصر التعمير والبناء، لا الهدم والتكسير. لذا يُستحسن استبدال كلمة "تدمير" بتعابير مثل "تفكيك منشآت مخالفة" أو "إزالة عوائق خادشة للنظر" أو "إعادة تشكيل البيئة". فكل شيء قابل لإعادة التدوير. أليست كل الأشياء قابلة للتدوير، حتى الضمير؟!
مقاومة: مفهوم عتيق أكل عليه الدهر وشرب، يحمل في طياته معاني الممانعة والمجابهة. يجب إدخاله تحت بند "الأعمال التخريبية"، أو "الإرهابية"، أو "المتطرفة"، أو "العبث براحة المواطنين". فالمقاومة تحوّلت لدى البعض الى عمل مزعج غير مريح. ألا يستحق هؤلاء الراحة! فراحتهم مقدّسة، تعلو ولا يعلى عليها، حتى ولو كانت على حساب الكرامة والعزة والشرف!
دفاع: هذا مفهوم اشكالي. فالدفاع لا يجب ان يبقى حصرًا بالدفاع الحقيقي عن النفس وحمايتها، بل ان يتغير ليصبح "ردًا وقائيًا استباقيًا"، ليتمكن الظالم من استعماله لتبرير هجومه بحجة اتقاء الشر قبل وقوعه، فيُمنح اعترافًا دوليًا لما قام بها من اعتداءات! وبذلك يتحول الأمر الى دفاع عن النفس بالضربات الوقائية! هل من عيب في هذا؟
عميل: هذه كلمة غير لائقة لا معنويًا ولا أدبيًا. انها صفة مقيتة من غير الجائز لا شرعًا ولا قانونًا الابقاء عليها في قاموس اللغة. يجب بكل قوة شطبها. فالمعاجم تعجّ بالكلمات البديلة والتعابير التي يمكن ان تقضي عليها وتحل محلها. فمما يشكي تعبير "ناشط مستقل بتمويل أجنبي"، أو "خبير دولي مؤهَّل"، أو "شريك في التنمية الدولية" او "عامل في منظمة اجتماعية تهدف الى ادخال العملة الصعبة الى بلد منكوب"؟ فهل هذه التعابير ناقصة من الاعراب او لا تحتوي على قيمة جمالية؟!
كرامة: كانت الكرامة يومًا، بما تتضمنه من عزة النفس ورفض الخضوع والإذلال واحترام الذات، قيمةً يحتفظ بها الإنسان كوصية لا يُفرّط بها. لكن في زمن الهيمنة الأمريكية، ولدى فئات بعينها كشلة عوكر او دبي مثلا، فقدت معناها، فحوّلوها إلى عيبٍ أخلاقي. من يذكرها يُنهر، ومن يتمسّك بها يُلام، وكأنها عملة اثرية مرمية في متحف لا تليق بعصر السوق والسطوة. في بلاد الشام، حين يريد أحدهم الاستهانة بشيء أو رفضه بسخرية قاطعة، لا يقول "لا جدوى منه"، بل يكتفي بعبارة: "بلّها واشرب ميّتها". وهكذا تُستقبل كلمات مثل "شرف"، "عزة"، و"كرامة"؛ لا باعتبارها مطالب، بل كنوادر تُقابل بابتسامة خفيفة أو بجملة: "مرحبا يا كرامة"! في القاموس الجديد الذي تعمل عليه اللجنة، يُقترح تعريف الكرامة على أنها: "حالة غير قابلة للصرف"، أو "مطلب غير واقعي"، تُدرج تحت بند "الرغبات غير العملية"، إلى جانب مفردات مثل "العدالة"، "الحق"، و"الضمير". بل إن بعض المختصين في الواقعية السياسية يقترحون تصنيفها كمصطلح أثري يُستخدم في الشعر وللدباجة، ويُمنع ذكره في الخطابات، خشية أن يُفسَّر كتحريض على التمرد أو رفض للواقع. أما من يُصرّ على التمسك بها، فيُصنَّف بـ"الرومنسي الحالم" او "الطوباوي الخيالي" او "صاحب نزعة أخلاقية مرهَفة"، ويُنصح بالخضوع لدورات تدريبية في "المرونة الحياتية"، و "فن التكيف مع الإهانة والمقدرة على بلعها". فالكرامة، في نسختها المعولمة، لم تعد حقًا، بل أصبحت عبئًا. ومن أراد الاحتفاظ بها، فليضعها في صندوق مغلق، ويكتب عليه: "هنا ترقد الكرامة"، ويُفضَّل أن يُدفن الصندوق في أرشيف الأمم المتحدة، بجانب ملفات "العدالة"، "حق تقرير المصير"، و"الضمير"!
بعد أن استمع الحضور إلى مقرر اللجنة، أثنوا على الجهود التي بُذلت وخرج الجميع من القاعة والابتسامات الصفراء مرسومة على وجوههم ومحمّلين بقاموس جديد، يُعرّف بعض المفاهيم التي أصبحت "خالية من الدسم"، "لا طعم لها ولا مزّية"!
87 مشاهدة
13 أكتوبر, 2025
126 مشاهدة
12 أكتوبر, 2025
94 مشاهدة
12 أكتوبر, 2025