د. علي ضاهر
في زمن تتداخل فيه المعاني وتتشابك، وجدت نفسي أمام كلمة أربكتني وأثارت فيّ سلسلة من التساؤلات اللغوية والوجودية. انها كلمة "عقيلة". فقد كنت أظن، بثقة لا يخالطها شك، أن "عقيلة" اسم مؤنث، حتى اصطدمت صدفة باسم عقيلة صالح، رئيس مجلس النواب الليبي بعد ثورة 17 فبراير. فقلت في نفسي: يا للعجب! رجل يُدعى "عقيلة"؟ أضاقت الدنيا بما فيها من أسماء ذكورية حتى اختار له والداه اسمًا مؤنثًا؟ وكأن "سمير" و"وحيد" و"كريم" و"نبيل"، وحتى "عقيل"، قد اندثرت، فاستُعيض عنها باسم جارتنا "الحاجة عقيلة" التي كانت مغرمة بطهو الملوخية!توالت الاحتمالات في ذهني: هل أخطأ موظف سجل النفوس؟ أم هي حيلة لإعفاء المولود من التجنيد الإجباري؟ أم محاولة لإخفائه عن أعين حاكم ليبيا البريطاني، الذي قد يكون قد أمر بقتل الذكور، تشبها بما فعله الملك هيرودس الذي أمر بذبح ذكور بيت لحم خوفا من فقدان سلطته كما بشر به المجوس؟ أم أنها مؤامرة لغوية، أرادت فيها العربية ان تلعب لعبة الأضداد، فتطرح أمامي لفظًا واحدًا بمعانٍ متناقضة؟
لكن لنترك للحظة لغة إمام النَّحْويينَ، سِيبَوَيْهِ، جانبًا، وننتقل إلى الجغرافيا. ففي ليبيا بلدة ساحلية تُدعى "العقيلة"، موقع استراتيجي شهد معارك ضارية في الحرب العالمية الثانية. البريطانيون، الألمان، الإيطاليون، كلهم مرّوا منها، وكأنها محطة إجبارية يتبارك بها العسكر. حتى ثعلب الصحراء، رومل، وجد فيها ملاذًا، قبل أن يُطرد منها "شر طردة"، كما طُرد إبليس اللعين من الجنة. ولنعد الان إلى العربية، تلك اللغة الجميلة والماكرة، التي أربكتني حين استعملت الجناس في اسم "عقيلة". إذ كيف يُطلق على رجل اسم "عقيلة"، بينما يُقال للنساء عمومًا "العقيلة"؟ حتى إذا ذُكرت زوجة رئيس مجلس النواب الليبي، نقوم بتربيع الكلمة، يعني نضربها بنفسها، فنقول: "عقيلة²" او "عقيلة عقيلة" مما يدفع الى مزح محمود! أما كان يكفي العرب أن يقولوا "زوجة"، أو "قرينة"، أو "حليلة"، أو "شريكة"، أو "رفيقة"، أو حتى "الحرم"؟ ما هذا التعقيد؟ أكان جهابذة الفصحى يشعرون بالملل؟ أم أن أحد المتحذلقين قرر أن يُحكم الرباط بين المرأة والرجل، كما يُربط السالب بالموجب؟
لازمتني الحيرة، حتى التقيت بأحد فقهاء اللغة، ففتح لي بابًا من المعاني المكنونة في كلمة "عقيلة". قال: "عقيلة، يا عزيزي، تعني الزوجة الكريمة، السيدة المصونة، الدرة الكبيرة في صدفتها. وهي أيضًا لقب يُطلق على الناقة الأصيلة، وعلى سيد القوم، وعلى أفضل الكلام، وعلى درة البحر." باختصار: هي كلمة واحدة تصلح لكل شيء! لكن وهنا يبدأ التأويل، ويُعطى اللفظ معنى يمكن ان يفضح شخصية المتكلم. فتصبح الكلمة كإناء ينضح بما في قلب ناطقها. المنفتح يرى في "العقيلة" الزوجة الكريمة والدرة الثمينة. المنغلق يراها الزوجة المربوطة ب"كرعوب زوجها". المحلل السياسي يراها رمزًا للارتباط القسري بين الزعيم والرعية. أما اللغوي، فيراها درة وكنزًا دلاليًا. وكما فكر عبد القاهر الجرجاني، الذي كان يعتقد أن السامع "يعقل" من اللفظ معنى، ثم يفضي به ذلك المعنى إلى معنى آخر، ولا يُتوصل إلى معنى المعنى إلا عبر البيان، والمجاز، والتشبيه، والفهم، وربما مع الصبر والتمعن والاستمتاع.
وهكذا، من اسم رجل إلى بلدة ساحلية، ومن معركة تاريخية إلى دلالة لغوية، أخذتني كلمة "عقيلة" في رحلة عبر الزمان والمكان والمعنى. وربما، في نهاية المطاف، لا يكون استعمال هذه الكلمة مجرد لفظ، بعيد عن فكر قائله وما يعتمل فيه او بمنأى عن خلفية متلقيه الادراكية ومكنونات دواخله بل اختبارًا لما يعتمل في نفسنا وطريقة فهمنا للأشياء وقدرتنا في الانفتاح على المختلف وتقبلنا له، وماهية نظرتنا إلى الآخر، مهما كان جنسه أو لونه أو شكله، على أنه مساو لنا. في النهاية، لعل الكلمة ليس سوى مرآة لما فينا: فإذا كنا منفتحين، حمَّلناها كل جمالاتنا، وإذا كنا منغلقين، شحناها بجميع قبائحنا. كما وإن تفسيرنا للكلمة حين نتلقاها تكشف عن جوهرنا، كما تكشف لغتنا عن وعينا.
136 مشاهدة
01 ديسمبر, 2025
35 مشاهدة
01 ديسمبر, 2025
227 مشاهدة
29 نوفمبر, 2025